تحقيقات وتقارير

السودان وأفريقيا في الأجندة الإسرائيلية

اكتسبت الجولة الأفريقية التي قام بها نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلي اليميني المتطرف أفيق رورليبرمان على مدى العشرة أيام الماضية منذ الأربعاء الثاني من سبتمبر الحالي 2009م والتي شملت خمس دول من بينها ثلاث من دول منابع نهر النيل هي كل من إثيوبيا، كينيا ويوغندا إلى جانب كل من نيجيريا وغانا أهمية خاصة من حيث التوقيت والظروف والملابسات المحيطة بها حيث تعتبر هي الأولى من نوعها لوزير خارجية إسرائيلي منذ حوالي (22) سنة وذلك إضافة إلى أنها جاءت في وقت يتزايد فيه التحرك الصيني والإيراني على هذا الصعيد وكذلك فقد جاءت الجولة متزامنة مع بروز أزمة متفاقمة ومتصاعدة من قبل دول منابع نهر النيل في الهضبة الأثيوبية والبحيرات الأفريقية الاستوائية في مواجهة حادة مع كل السودان كدولة معبر لمياه النهر ومصر كدولة مصب لمياه النهر التي تعتمد عليها وتعتبر بمثابة شريان للحياة بالنسبة لها على وجه الخصوص، وتعود الأزمة التي ظلت متفجرة ومستعصية على التسوية بعد أن انفجرت بصورة درامية ومفاجئة في وقت سابق من العام الحالي إلى تمسك دول المنبع وبصفة خاصة في البحيرات الاستوائية التي تضم كل من كينيا ويوغندا وتنزانيا ورواندا وبورندي والكنغو الديمقراطية (زائير سابقاً) وإصرارها على الإبرام النهائي لاتفاقية مبادرة حوض النيل وإنشاء مفوضية شاملة لها مع رفض الإقرار بالاتفاقيات السابقة المبرمة بشأن تنظيم الاستفادة من مياه النيل والاعتراف بالحقوق التاريخية المكتسبة لدولتي المعبر والمصب حيث تبذل مصر وبالتعاون مع السودان جهوداً مضنية وحثيثة ودءوبة ومكثفة ومستمرة ومتواصلة على المستوى الدبلوماسي وعبر كافة الطرق والسبل والوسائل الودية والسلمية الأخرى في سبيل إقناع دول منابع النيل بالتراجع عن مواقفها المتصلبة وإبداء المرونة اللازمة والمطلوبة والتي لا غنى عنها ولا مناص منها لتسهيل الحصول على الوصول للإجماع حول المبادرة الجديدة للمياه في دول الحوض وتأسيس المفوضية المرجعية المنبثقة بناء عليها أو بموجبها وفقاً لها بيد أن كافة الجهود المبذولة ظلت متعثرة ومتعذرة ومرفوضة بشدة ومصطدمة بمواقف متشددة ومتطرفة من جانب دول المنابع بصفة عامة وفي الهضبة الاستوائية المدعومة من قبل إثيوبيا بصفة خاصة ولهذا فقد فشل الاجتماع الأخير لوزراء الري والموارد المائية لدول حوض نهر النيل الذي عقد بمدينة الإسكندرية المصرية في وقت سابق من نهاية يوليو الماضي بينما ينتظر أن ينعقد اجتماع آخر في الفترة المقبلة في محاولة ربما قد تكون الأخيرة للتغلب على هذه المشكلة التي يجري النظر لها من قبل الجانب المصري على المستوى الرسمي والشعبي على أنها بمثابة تهديد خطير للأمن القومي لدولة المصب لمياه النهر إلى جانب تأثيرها السلبي على دولة المعبر الممثلة في السودان والتي تربطها اتفاقيات ثنائية خاصة بمياه النيل وعلاقات وثيقة ووطيدة وحميمة ومتميزة من الجارة مصر بوصفها الشقيقة الكبرى بالنسبة للسودان في هذا الصدد وبهذا الخصوص.
× عودة للبذور
كان من الملحوظ بصورة لافتة أن قضايا التعاون في مجال المياه والزراعة قد أخذت حيزاً ملموساً وبارزاً أثناء الجولة التي قام بها المسئول الإسرائيلي الرفيع المستوى على رأس وفد كبير ضم حوالي عشرين من رجال الأعمال إلى الدول الأفريقية التي شملتها الزيارة بصفة عامة وفي دولة منابع نهر النيل بكل من إثيوبيا وكينيا ويوغندا على وجه الخصوص.
وعلى العموم فإن جذور الاهتمام الإسرائيلي بالتحرك المدروس على الصعيد الأفريقي وتكريس جزء ملموس فيه لقضايا مياه نهر النيل في مسعى لا يخفى أنه يأتي في سياق العمل من أجل التأثير السلبي وممارسة الضغوط على كل من مصر والسودان بشكل ملحوظ تعود إلى وقت بعيد بدأ وظهر وبرز على سطح الأحداث منذ المراحل الأولى للحركة الصهيونية التي نجحت في إنشاء دولة إسرائيل ككيان صهيوني مزروع في قلب العالم العربي بالأراضي الفلسطينية المحتلة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى الوقت الحالي.
إن ما ورد في العديد من المصادر والمراجع المتعلقة بهذا الموضوع والمهتمة وذات الصلة والتي اعتمدت عليها دراسة متميزة للكاتب والباحث السوداني الشاب والمتعمق شمس الهدى إبراهيم إدريس صدرت الطبعة الأولى منها بالخرطوم في عام 2005م تحت عنوان (التدخل الإسرائيلي في السودان.. كيف ولماذا؟) حيث نقل عن مدير جامعة أفريقيا العالمية البروفيسور حسن مكي أنه ذكر في تقديمه للكتاب (التغلغل الصهيوني في أفريقيا) إن الصهيونية تستمد علاقتها بأفريقيا وحكامها من أساطير اليهود النابعة من علاقات الأنبياء بأفريقيا ومنها الأساطير حول علاقة ملكة أكسوم الأثيوبية بلقيس سبأ بسيدنا سليمان وزواج سليمان منها وإنجابها لذرية من الملوك الأثيوبيين تجري في دمائهم دماء صهيون المقدسة فيما عرف بأسطورة أسباط يهوذا وذلك لإيجاد رابطة بين حكام أثيوبيا وحكام إسرائيل وأيضاً أسطورة دفن التابوت اليهودي في كنيسة أكسوم الكبرى في ميكاللي عاصمة إقليم التقراي الإثيوبي وقد ذكر بروفيسور حسن مكي أن التابوت له مقام فريد في الأدب الصهيوني مثله كمثل هيكل سليمان إذ أنهم يعتبرون التابوت مستودع الحكمة وأسرار اليهود ويحاولون بذلك مؤاخاة الكنيسة الأرثوذكسية الأثيوبية بالكنيسة اليهودية والأولى فرع من الثانية ويمكن من خلال ذلك فهم اهتمام اليهود بالفلاشا الأثيوبيين كعنصر يهودي أفريقي، وهناك أيضاً أسطورة سبط بين إسرائيل الضائع في منطقة البحيرات وجنوب السودان وبحيث نجد كذلك – والحديث للبروفيسور حسن مكي – محاولات مؤاخاة التونسي بالشعب اليهودي باعتبار أن الشعب التونسي شعب مبدع ومضطهد مثله مثل اليهود ولذا فلا عجب أن خلَّد التونسيون ضحاياهم على ذات الطريقة الصهيونية وأصبح ضحايا التونسي في رواندا مثل ضحايا المحرقة النازية في ألمانيا ويبدو أن القارة الأفريقية كانت مستهدفة بالدرجة الأولى داخل المخطط بضع بعض المناطق الأفريقية لمواقع بديلة في حالة تهديد المركز الأصلي في فلسطين المحتلة وأبرز تلك المواقع منطقة شرق أفريقيا وقد كان تفكير مؤسس المشروع الصهيوني تيودوز هرتزل ورفيقه حاييم وإيزمان ينصب في إقامة وطن قومي يهودي في يوغندا وكذلك يظهر السودان كمقترح لإقامة وطن قومي لليهود في مخاطبتهم للورد كرومر في عام 1903م و1907م باعتبار أن السودان مستعمرة بريطانية آنذاك وتنفيذاً لرغبات أعداد كبيرة من اليهود الذين أرادوا الاستقرار معاً في مناطق يستطيعون فلاحتها بأنفسهم ويسمونها وطناً مشتركاً وقد رأى هرتزل إن شرق أفريقيا يعتبر مكاناً مناسباً وأعطى الأولوية للتفاعل مع أفريقيا مستنداً على فكرة التواجد المكثف بها لجمع يهود الشتات في هذه القارة.
البداية من أثيوبيا وليبيريا،
وعلى كل ورغم أن العلاقات الإسرائيلية الأفريقية قد اتسمت بالتعاون والتطور في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية منذ الإعلان عن إنشاء الدولة العبرية في فلسطين المحتلة عام 1948م فلم يكن لإسرائيل نشاطاً ملحوظاً في القارة الأفريقية حتى منتصف خمسينات القرن الماضي وذلك نذراً لأن عدد الدول الأفريقية المستقلة جنوب الصحراء لم يتجاوز الخمسة دول في ذلك الحين وكانت ليبيريا تعتبر مدخلاً للعلاقات الإسرائيلية الأفريقية وهي أول دولة أفريقية عقدت معاهدة صلات وتعاون وتبادلت معها إسرائيل الزيارات الرسمية كما تعتبر ثالث دولة في العالم تعترف بإسرائيل وكانت أثيوبيا الدولة الأفريقية الثانية التي تقيم علاقات مع إسرائيل والجدير بالذكر أن ليبيريا وأثيوبيا هما الدولتان الوحيدتان في أفريقيا الحاضرتان في جلسة الأمم المتحدة للتصويت على قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل في جزء منها عام 1948م وافقت ليبيريا على القرار وامتنعت أثيوبيا عن التصويت وعندما تم الإعلان عن استغلال غانا عام 1957م كانت إسرائيل أول من اعترف بها وأقامت سفارة في أكرا.
× المدخل الاقتصادي
وتظهر مظاهر التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا من سعي إسرائيل إلى التحكم في الاقتصاد الأفريقي وتوجيهه من خلال استخدام سياسية المعونات الفنية والتقنية فضلاً عن المدربين والخبراء الإسرائيليين في المجالات المختلفة بما فيها العسكرية حيث ذكر كتاب (الوضع الملتهب على الصعيد الأفريقي) الذي صدر عن شبكة المعلومات العربية عام 2005م أنه توجه إلى أفريقيا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نحو 1500 خبير إسرائيلي كما استقبلت إسرائيل مؤخراً نحو 6200 مندوب من أفريقيا علاوة استثمارات الشركات الهندسية والصناعية الإسرائيلية التي حصلت على عقود للعمل في أفريقيا بمئات الملايين من الدولارات وارتفعت الصادرات والواردات بين أفريقيا وإسرائيل حيث كانت صادرات إسرائيل عام 1970م لا تتجاوز 41 مليوناً و500 ألف دولار ثم وصلت عام 1980م إلى 190 مليوناً و900 ألف دولار ثم قفزت في عام 1993م إلى 364 مليوناً و400 ألف دولار، وقد سمحت السوق الأوروبية المشتركة لإسرائيل لما ورد في كتاب (التغلغل الصهيوني في أفريقيا) الذي صدر عن جامعة أفريقيا العالمية ومركز البحوث والدراسات الأفريقية أن تكون مركز التدريب المبعوثين من الدول الأفريقية المرتبطين بالسوق الأوروبية وكذلك سعت إسرائيل للترابط وبناء علاقات مع حكومة اتحاد الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا سابقاً واستمرت تلك العلاقة حتى وصلت ذروتها الإستراتيجية وأدت إلى صناعة قنبلة ذرية إسرائيلية بالمشاركة مع جنوب أفريقيا العنصرية آنذاك وكانت نواة تلك العلاقات بين الرئيسين الجنوب أفريقي جان كريستان والإسرائيلي حاييم وإزيمان حينذاك وكما قال جان كريستيان فليست هنالك دولة في العالم مقارنة بحجم سكانها فعلت أكثر مما فعلته جنوب أفريقيا حينئذ من أجل الصهيونية حيث اعترفت حكومة جنوب أفريقيا العنصرية السابقة بدولة إسرائيل بعد تسعة أيام فقط من إعلانها في 24/5/1948م.
× عقدة باندونغ
ويعود تصاعد وتزايد اهتمام إسرائيل بتطوير العلاقات الدبلوماسية مع الدول الإفريقية للعام 1956م، بعد أن اتخذ المشاركون في مؤتمر باندونغ باندونيسيا عام 1955م قراراً بإقصاء إسرائيل من أعمال ذلك المؤتمر الذي أسس لحركة دول عدم الانحياز، مما أشعر الإسرائيليين بضعف سيادتهم في دول العالم الثالث، فاتجهت إسرائيل لإقامة علاقات صداقة مع الدول الإفريقية. حتى قبل استقلالها وأكبر مثال على ذلك كان في غانا حيث كانت هناك اتصالات بين الطرفين في مؤتمر الاشتراكية الدولية آنذاك، وبعد أن قامت وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير بأول زيارة لأفريقيا شملت ليبيريا والسنغال وساحل العاج ونيجيريا وغانا، قام الرئيس الإسرائيلي اسحق بن زفي في عام 1962م بزيارة لخمس دول في غرب أفريقيا، وخلال العقود الماضية سعت اسرائيل إلى تعزيز سياساتها الأفريقية بدرجة تفوق طموحاتها، وطبقاً للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الأفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد للسلام بالشرق الأوسط في أكتوبر 1991م قد بلغ ثلاثين دولة، وحتى عام 1997م بلغ عدد الدول الأفريقية التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل حوالي 48 دولة، كما ورد في دراسة الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا في مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الشرق الأوسط بالأردن، وتشير الاحصاءات التي نشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية الاسرائيلية إلى أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في اسرائيل عام 1997م قد وصل إلى نحو 742 متدرباً إضافة إلى 25 ألف إفريقي تلقوا تدريبهم من قبل مراكز التدريب الاسرائيلي خلال الأربعين سنة الماضية وتطرح اسرائيل كما ذكر الكاتب والباحث حمدي عبد الرحمن المصري في مجلة دراسات شرق أوسطية نموذجاً مهماً بالنسبة للدول الافريقية في ميدان محاصيل الأراضي القاحلة وشبه القاحلة، وعلى سبيل المثال فان البرنامج الدولي الذي تتبناه جامعة بن غوريون في صحراء النقب بتمويل من اليونسكو ووزيرة الخارجية الفنلندية ومركز التعاون الدولي الاسرائيلي يسعى لاقامة مشروعات زراعية في أفريقيا بغرض الزراعة الدائمة، وقد تم تنفيذ مشروعين أساسيين طبقاً لهذا البرنامج في يوغندا، أولهما المشروعات في مختلف مناطق غرب افريقيا مثل غانا ونيجيريا وموريتانيا والسنغال والنيجر ومالي والكاميرون بالإضافة إلى تشاد.
الاهتمام بالبحر الأحمر
وكما ورد في كتاب (تطور الاستراتيجية الاسرائيلية في القرن الافريقي) الصادر من مركز الراصد للدراسات بالخرطوم عام 2003م فقد سعت إسرائيل بواسطة طرق مختلفة لتأكيد ارتباطها بأفريقيا، ففي عام 1949م أصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي بن غوريون توجيهاته والاستيلاء على مرفأ أم الرشاش المصري على البحر الأحمر، معللاً ذلك بأهمية المرفأ لتحقيق علاقات لإسرائيل مع دول أفريقيا، وهو المرفأ الذي تطلق عليه إسرائيل اسم (إيلات)، حيث بنت إسرائيل أهدافها الإستراتيجية في أفريقيا على تأمين البحر الأحمر، واكتشفت سلامة ذلك عندما تم اغلاق باب المندب في وجهها في حرب 1973م، وفي ذات الإطار فقد ركزت إسرائيل على دول نهر حوض النيل لرغبتها في الحصول على مياه هذا النهر، ومحاصرة الأمن القومي العربي في امتداده السوداني والمصري وفقاً لاستراتيجية حلف المحيط أو استراتيجية شد الأطراف التي ترتكز على إقامة علاقات وتحالفات مع الدول والجماعات الإثنية والعرقية المعادية للفردية والإسلام، وكما ذكر ضابط المخابرات الإسرائيلي المتقاعد موش خفرجي في كتابه الصادر عن مركز دربان لأبحاث الشرق الأوسط وافريقيا بجامعة تل أبيب عام 2003م تحت عنوان (إسرائيل وتحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق) فقد وجهت اسرائيل جهودها لاقامة علاقات مع الجماعات غير العربية في السودان والعراق وسوريا ومصر بنظرة متأنية وثاقبة بما في ذلك الجهود السرية والعلنية وتجنيد الخبراء المتخصصين في هذا المجال.
جوار السودان
وحرصت إسرائيل على تمتين وتثمين علاقاتها مع دول الجوار السوداني، خاصة في منطقة القرن الافريقي، كما ذكر كتاب المؤامرة الايرانية الصادر عن جامعة تل أبيب للكاتب شموئيل سيحيق، فقد كثرت زيارات أجهزة المخابرات الإسرائيلي إلى أثيوبيا واريتريا، لإقامة دورات تدريبية لأجهزتها الأمنية والعسكرية، ابتداءً من تسعينات القرن الماضي من لعب دور جوهري وخطير، حيث نجحت في ابعاد اريتريا عن العالم العربي، وتطور الأمر لدرجة أن الرئيس الاريتري قال في عام 1990م إننا لا نريد أن نكون دولة عربية، ولما كانت اريتريا دولة حديثة تحتاج للدعم الاقتصادي والامني والفني، فقد وجدت إسرائيل الفرصة وتولت المخابرات الإسرائيلية دعم اريتريا بصورة كاملة، يبدو أن خطة اسرائيل الاستراتيجية في منطقة القرن الافريقي قد تمت باتفاق سري مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يلاحظ أن تطور علاقات اسرائيل مع أثيوبيا قد فاق تطور علاقتها مع اريتريا وخاصة في مسألة التوترات بين اريتريا وأثيوبيا، واتهام اريتريا للولايات المتحدة بأنها منحازة لأثيوبيا، ومن مظاهر تنسيق الخطط الاسرائيلية التي تباركها الولايات المتحدة إقامة سدود ومشروعات للري في كل من أثيوبيا ويوغندا والكنغو الديمقراطية (زائير سابقاً) وهي كلها مشروعات يمكن أن تتطور مع الوقت، وقد أدت المتغيرات الدولية التي نتجت عن العولمة الى إعادة توجه السياسة الأمريكية تجاه شرق ووسط أفريقيا، وخاصة بعد تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا عام 1998م، ولتحقيق الأهداف والمصالح الأمريكية الاسرائيلية في المنطقة حاولت إسرائيل إنشاء بنيات أساسية تربط ما بين شرق أفريقيا ومنطقة منابع نهر النيل في البحيرات الاستوائية الافريقية العظمى، وثمة ملاحظة هنا وهي أن بروز وتنامي الدور الأمريكي والاسرائيلي في منطقة وسط وشرق افريقيا قد تراجع معها، وتجمد الدور الأوروبي عدا بعض التحركات الفرنسية في الدول التي لها حدود مع السودان في جانبها الغربي، رداً على تحركات إسرائيل وأمريكا في المنطقة بعد أحداث دارفور، وخاصة في تشاد التي يعود الوجود الاسرائيلي فيها إلى بدايات القرن قبل الماضي، حيث دخل الاستعمار الفرنسي في شكل شركات اقتصادية، دور جهات تجسس تدخل تشاد نهب الطوق الاسرائيلي المضروب حول الدول العربية والإسلامية.
المهندس لوبيراني
ويعتبر اروي لوبيراني مستشار رئيس الوزراء الأسبق ديفيد به غوريون هو مهندس ومخطط المواجهة لضرب الوحدة الوطنية في الأقطار العربية المحيطة باسرائيل، وقد قال لوبيراني في هذا الإطار وكما ورد في كتاب (إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان، الصادر في إسرائيل عام 2003م أنه لا بد من رصد وملاحظة ما يجري في السودان، ذلك القطر الذي يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، بالإضافة لسد رحله المترامية على البحر الأحمر، مما يعتبر موقعاً استراتيجياً يقتضي خلق ركائز أما حوله أو في داخله عبر الحركات الانفصالية وإثارة النعرات القبلية والطائفية والجهوية، ومن الحقائق الثابتة أن إسرائيل رفعت منذ قيامها عام 1948م شعار (أرضك يا إسرائيل من النيل للفرات).
محاولة سابقة مع حزب الأمة
وقد بدأت إسرائيل اتصالاتها بالدول الإفريقية المجاورة للسودان، وأقامت خلال الفترة من 1956م- 1972م علاقات مع (32) دولة افريقية، كما ورد في كتاب (أسرائيل وحركة تحرير السودان نقطة البداية والانطلاق)، حيث ذكر الكتاب الذي أصدره ضابط المخابرات الإسرائيلي المتقاعد موشي فرجي عام 2003م، إن إسرائيل كانت تبحث عن مدخل مناسب عندما كان السودان على أبواب الاستقلال من الاستعمار البريطاني في منتصف العقد الخامس من القرن الماضي، حيث التقت وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير آنذاك بوفد من حزب الأمة والأنصار في لقاء سري بكل من لندن وباريس، وبحثت معهم إمكانية تقديم مساعدات إسرائيلية لهم لمواجهة التمدد الناصري المصري بالسودان في ذلك الحين، ولكن عقب انقلاب 1958م واستيلاء الجنرال عبود على السلطة في الخرطوم اختلف الأمر وتغيرت الاستراتيجية نحو السودان، فاتجهت إلى جنوب السودان لدعم صراع الزعامات هناك ضد الشمال السوداني، وتزامن ذلك مع افتتاح القنصلية الاسرائيلية في أديس أبابا، وبداية نشاط اقتصادي إسرائيلي في أثيوبيا، التي بدأت تشكل في هذا السياق أولى حلقات الاتصال والتعامل مع الحركة المتمردة في جنوب السودان، وبدأت مرحلة نشطة لتدريب ضباط من أبناء الجنوب، وتحولت أثيوبيا إلى قاعدة اسرائيلية لإمداد حركة أنانيا المتمردة في جنوب السودان بالسلاح، وتدفق المعدات العسكرية من ثلاث قواعد إسرائيلية مركزية في الدول المجاورة، وقد كان تعيين ادري لوبراني سفيراً لاسرائيل في يوغندا بين عامي 65-1966م، ثم في أثيوبيا من عام 1967م وحتى1972م أثراً واضحاً في مساعدة حركة التمرد في الجنوب السوداني، وصول قوات مظلية إسرائيلية لتدريب المتمردين، ونقل آخرين إلى يوغندا وكينيا وأثيوبيا وإسرائيل بهدف تلقي التدريب في ذلك الحين.
الفلاشا
وفي هذا السياق وبعد محاولة الحزب الشيوعي الانقلابية الفاشلة على الرئيس السوداني الأسبق الراحل جعفر محمد نميري عام 1971م، نجحت الولايات المتحدة في ابعاد السودان عن الاتحاد السوفيتي في ذلك الحين، الأمر الذي أدى إلى هدوء التعليمات العسكرية في جنوب السودان، حيث اجتهدت الولايات المتحدة في تقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية وحركة أنانيا المتمردة آنذاك، حتى توج الأمر بإبرام اتفاقية أديس أبابا للسلم في عام 1972، وهنا تحركت إسرائيل لإيجاد مدخل آخر لمواصلة دورها في السودان وبناء علاقات معه بعد المصالحة بين الجنوب والشمال، حيث ظهرت علاقات في أواخر سبعينيات القرن الماضي بين السودان وإسرائيل استهدفت حمل النظام السوداني بقيادة الرئيس الراحل جعفر نميري للتعاون في تهجير اليهود الفلاشا الأثيوبيين اللاجئين إلى إسرائيل.
وبانهيار اتفاقية أديس أبابا في عام 1983م، وجدت إسرائيل مدخلاً آخر للتغلغل في السودان وتنفيذ مخططها، فاتجهت مرة أخرى إلى جنوب السودان وفي عام 1989م تم إبرام اتفاق بين إسرائيل والحركة الشعبية لتحرير السودان، لتزويد جيش الحركة بالعديد من الخبراء العسكريين الذين توافدوا على جنوب السودان، كما ذكر اللواء عثمان كامل بمجلة (الأهرام) المصرية تحت عنوان (التغلغل الإسرائيلي في افريقيا) مع تقديم دعم مالي للحركة لشراء أسلحة متطورة، وفي ذات الوقت بدأت إسرائيل تستقبل عناصر من الحركة لكي يتدربوا على حرب العصابات، وتشجيع الضباط الجنوبيين للالتحاق بالمعاهد العسكرية الإسرائيلية، كما ذكر ضابط المخابرات الإسرائيلي المتقاعد موشي فرجي الذي أشار لتقديم الدعم والمعلومات والخرائط للتمرد في الجنوب السوداني من قبل إسرائيل، ومن خلال ما تحصل عليه أقمارها الصناعية، وبعدما عقد ضباط المخابرات الاسرائيلية عدداً من الاجتماعات لدراسة شخصية د. جون قرنق، راهنت عليه إسرائيل كما كانت السفارات الأمريكية في كينيا ويوغندا وزائير، قد أوصت بتبنيه وفقاً لما ورد في كتاب موشي فرجي عن (إسرائيل وحركة تحرير السودان نقطة البداية والانطلاق)، وبالرغم من توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية ورحيل د. جون قرنق مازالت أيادي إسرائيل مستمرة وبصورة مكثفة في غرب السودان إضافة إلى الجنوب.
الاتجاه إلى دارفور
ويرى المراقبون أن إسرائيل اتجهت إلى غرب السودان، بعد أن انتهت مشكلة الجنوب بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا بكينيا في يناير 2005م، في الوقت الذي كانت تقوم فيه سياسات إسرائيل في السودان على أساس العمل من أجل اسقاط الحكومة القائمة، وتغيير نظام الإنقاذ الوطني الحالي، وهذا هو ما كشفه زعيم حزب الليكود ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي عام 2002م، حيث طالب الحكومة الأمريكية بالعمل على اسقاط أنظمة الشرق الأوسط، ومن بينها النظام السوداني، وقد كان لدعم التمرد في دارفور اسهام واضح في نشوء الأزمة، حيث استفادت إسرائيل من تداعيات الصراع، واتصلت بحركة تمرد دارفور، ورتبت اريتريا لقاءات بين الحركة وإسرائيل، التي أعدت وساهمت في وضع خطة سياسية لتحالف المعارضة في دارفور، تمت صياغتها في وزارة الخارجية الإسرائيلية ونقلت إلى الولايات المتحدة لاقناعها بمساندة حركات التمرد في دارفور.. ولما كانت الخطة تحتاج إلى الدعم المالي الكافي لتنفيذها، فقد وجهت إسرائيل وكما ورد في كتاب الاستراتيجية الاسرائيلية في القرن الافريقي بجمع التبرعات من قبل الجماعات اليهودية الأمريكية، كما دعمت إسرائيل التمرد في دارفور عن طريق اريتريا، وهو ما تمخض عن اجتماع التحالف الفيدرالي السوداني المعارض مع مسئولين إسرائيليين في السفارة الإسرائيلية بكينيا، وكذلك تأتي مهمة البعثة الطبية الإسرائيلية إلى معسكرات اللاجئين السودانيين بتشاد، في إطار المهمة الأمنية الإسرائيلية في المنطقة، وقد حاولت إسرائيل الاقتراب من حزب الأمة مرة أخرى، ويبدو أن مصافحة الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز للصادق المهدي في مؤتمر مدريد الدولي حول الارهاب في مارس 2005م لها مغزى ودلالات أخرى، لأن الصحف الإسرائيلية تناولتها بصورة مثيرة للجدل، الأمر الذي دعا مكتب حزب الأمة لنفي ذلك، لكن إسرائيل أرادت تحريك اتصالات على غرار اتصالات غورد ماتير مع حزب الأمة في لندن وباريس عام 1954م.
المصدر :الرائد