الـــراعــي والـــرعيـــة.. صـــورة مــن بــلادي
بدأ مشروع الراعي والرعية الذي ينظم كل عام في رمضان أمس بحادثة طريفة، حيث كان التجمع بمنزل النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول بكري حسن صالح بحي الراقي جنوب الخرطوم، عقب صلاة العشاء والتراويح، النائب الأول فوجئ بعدد المسؤولين المشاركين في التحرك الليلي لبداية البرنامج.. وقال «يا جماعة نحن كتار .. مفروض نمشي الشخص منا وحده متخفياً ويضع لثاماً على وجهه ويعطي الأسرة المتعففة الواجب.. ويختفي في الظلام»، وأردف ضاحكاً «ما بالعربات الكتيرة دي والموكب دا».. أمين عام ديوان الزكاة قال: «كنا في بداية المشروع نفعل مثل هذا.. وهناك رب أسرة زاره مسؤول في الديوان متخفياً في نص الليل ولم يظهر له وجهه وأعطاه مبلغاً محدداً من المال .. وفي صباح اليوم التالي سرت شائعة بأن أسرة فلان زارهم أمس بعد منتصف الليل نبي الله الخضر».
ثم تحركنا في معية النائب الأول ووزيرة الرعاية الاجتماعية ووالي ولاية الخرطوم ومدير عام ديوان الزكاة ومدير منظمة الشهيد ومنسق الدفاع الشعبي، وعدد من القيادات والمسؤولين في هذه الجهات.
وليت المشاهد التي شهدناها كانت متاحة لكل السودانيين أو المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لمعرفة بركات هذا الشهر الفضيل ورفعة وسمو القيم التي ينادي بها الإسلام في التراحم والتعاطف والتكاتف، ولماذا نحن مطالبون محكومين وحاكمين بنهج الدين الحنيف.
أول أسرة زرناها في بري الدرايسة في أعرق أحياء الخرطوم، ودخلنا في شارع ضيق ومنزل بسيط لأسرة قرشي مبارك شيخ إدريس، وبشهادة هل الحي أنها من أكثر الأسر تعففاً وفضلاً وسماحة، تتكون من أربعة عشر فرداً، اثنان منهم أخ وشقيقته مصابان بمرض الفشل الكلوي، ويغسلان في الأسبوع مرتين، وليس لرب الأسرة قرشي أي مصدر دخل بعد تقاعده عن العمل بسبب خصخصة الجهة الحكومية التي كان يعمل بها، وباع عربته لعلاج والدته التي توفيت لرحمة المولى عزَّ وجلَّ، ويعول شقيقاته وبعضهن أرامل ولهن أبناء.. الأسرة كبيرة لكنها متعففة لا تمد أياديها لأحد، وصبرت هذه الأسرة على المحن وكابدت في الحياة، وهي عنوان للتضحية والتراحم بين أفرادها، وكان موقفاً مؤثراً جداً للنائب الأول ووفده، خاصة عندما وجد النائب أنه قبل الإنقاذ كان قد سكن نفس الحي وذكره عمدة بري بذلك، وقدم النائب الأول ووفده بعد أن تبولدت كلمات من الأسرة والعمدة ومدير ديوان الزكاة مبلغاً من المال، وستكون هناك إعانات أخرى من بينها توصية بشراء عربة أمجاد للاستعانة بعائدها في علاج مرضى الفشل الكلوي وإعالة الأسرة الكبيرة.
ومحطتنا الثانية كانت في أقصى شرق ولاية الخرطوم بعد مسيرة أربعين دقيقة، وصلنا قرية النعيماب بمحلية شرق النيل، وهناك رأينا الصبر الجميل والايمان الصادق يتجسد في هذه الأسرة شيخ كبير «موسى مكي إسماعيل» يقيم مع أسرته في العراء في منزل بالقرية بلا سور ولا أية مرافق أخرى، يبلغ من العمر «78» سنة وزوجته «68» سنة «فضة داؤود المليح»، وقدمت هذه الأسرة ثلاثة من أبنائها شهداءً من أجل الوطن، وهم بخيت موسى استشهد في جنوب كردفان عام 1999م، وسعيد موسى استشهد في 1994م، وأحمد موسى استشهد عام 1992م، ومنذ ذلك الوقت وبعد أن قدم الأب المكلوم وزوجه ثلاثة من الأبناء شهداء.. بقيا في دائرة النسيان لم يتذكرهما أحد ومعهما ابنة عمرها «18 سنة» بلا عمل وابن «15 سنة» بلا عمل ولا دراسة في هذه القرية النائية، الأم الصابرة قالت أمام النائب الأول بلغة بسيطة، إنها على يقين بأن ربها سيجمعها مع أبنائها الشهداء في الجنة، فما لم تجده من نعيم في الدينا ستلاقاه هناك.
وقضينا وقتنا مع هذه الأسرة، وتحدث النائب الأول ووزيرة الرعاية الاجتماعية ووالي الخرطوم ومدير عام منظمة الشهيد حديثاً ترقرقت فيه الدموع، وقال الفريق أول بكري إنه لا فائدة من الحكومة والدولة إن لم تقف مع أمثال هذه النماذج المضيئة من عامة الناس، وتعهد بحل مشكلات هذه الأسرة، وكان أهل القرية ــ وقد تحدث مندوب عنهم ــ يهللون ويكبرون وقلوبهم مملوءة بالثقة في الله، ولم يكن أحد منهم يتخيل أن الحكومة بكل هذا المستوى ستكون في قريتهم يوماً.. وكان الصبر هو سمة وعنوان هذه الوجوه التي رأيناها في القرية.. إنه مشهد بالغ التأثير ودرس يجب أن يتعلم منه الجميع.. فأسرة فقيرة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً تقف شامخة وقد فقدت أعزَّ ما تملك وهم فلذات الأكباد، وتظل صابرة مترابطة متماسكة قوية يسطع الإيمان من وجوه أفرادها.
ومحطتنا الثالثة كانت في قلب مدينة بحري في حي الشعبية، في منزل بالإيجار متواضع تعيش أسرة الشهيد عوض الكريم عثمان، زوجته وأبناؤه الأربعة بنتان وولدان، الابنة الكبرى تخرجت في الجامعة وتعاني من فشل كلوي، والبقية في مراحل التعليم العام، والشهيد عوض الكريم الذي استشهد عام 2000م كان جندياً بالقوات المسلحة، وترك لأبنائه سيرته العطرة وشهادته في سبيل وطنه وأمته وهي أعلى بيرق في سماء هذه البلاد، وليس لدى الأسرة منزل ولا أي معين، وبالرغم من أن أم أبناء الشهيد تزوجت إلا أن زوجها في السجن، وكان خير من يسندها في تربية الأبناء اليتامى.
والي الخرطوم تعهد بتحمل جزء من تكاليف شراء منزل من السكن الشعبي الاستثماري، وديوان الزكاة قدم مبلغاً من المال يفي بدفع المقدم مع تبرع والي الخرطوم، ومسؤول بديوان الزكاة تقدم دون أن يظهر أمام أحد وطلب من ربة المنزل المتحملة ظروف الحياة معرفة حجم مديونية زوجها.. وتحدث أكثر من شخص.. وكان النائب الأول يرفع بين الفينة والأخرى كفيه للدعاء لهذه الأسرة.
وبعد..
هذه صورة من برنامج الراعي والرعية الذي بدأ قبل سنوات، تعهدت فيه رئاسة الجمهورية منذ ذلك الوقت برعايته وإنجاحه ويشارك فيه رئيس الجمهورية ونوابه ومساعدوه وعدد من الوزراء والولاة في ولاياتهم، وتتم زيارة عشرات الأسر في مناطق السودان المختلفة، هذه صورة لا توجد إلا في السودان، وليس المقصود منه المباهاة ولا الدعاية للحكومة، لكنه استشعار بالمسؤولية والواجب وإحساس بمعاناة المواطنين خاصة المتعففين منهم.
ليت هذا المشروع يتطور وتشارك فيه جهات عديدة وتتم فيه مشروعات ذات منفعة عامة أيضاً في القرى والأحياء الفقيرة، ويتبنى رجال المال والأعمال والمؤسسات الضخمة كفالة الأيتام، وليت رئاسة الجمهورية رعت قيام هيئات ومنظمات ومؤسسات يكون واجبها فقط طوال العام تفقد هذه الأسر وتقديم العون لها واستقطاب الدعم لمشروعات تخدمها وتوفر لها الحياة الكريمة، حتى لا يكون العبء فقط على ديوان الزكاة. ومن واجب المجتمع أن ينشط وليس الدولة وحدها.
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة