من المزيرة إلى المكيف… دلع ويتش.. يا للهول
اليوم الرابع من رمضان من عام 1435 الموافق 2 يوليو من عام 2014، والساعة الآن الثامنة مساء بتوقيت الدوحة أي أنه مضت على الإفطار الرمضاني ساعة ونصف الساعة، ولم أشرب خلال الإفطار إلا نصف كوب من عصير الكركدي (من عجيب ما سمعته عن الكركدي أن تعاطيه باردا يخفض ضغط الدم، بينما تعاطيه ساخنا لا يقوم بتلك المهمة)، ذلك أنني لم أشعر بالعطش طوال اليوم مع أن الحرارة في الدوحة حيث أقيم كانت اليوم 45 درجة في الظل، ومع أنني عدت إلى البيت وأنا أصرخ بأعلى صوت: الدنيا بره جهنم!! طيب كيف لم أحس بالعطش؟ هل لأنني سحبت السوائل من سنامي؟ لا، فبكل تواضع فإن مخزون جسمي من السوائل والشحوم لا يكفي للإبقاء علي حيا لأكثر من 36 ساعة!!! هل أعاني من خلل بيولوجي يجعلني لا أحس بالعطش؟ أكيد أعاني مش من خلل بل من تخلخلات بيولوجية كثيرة ولكن ليس من بينها فقدان القدرة على الإحساس بالعطش، فكل ما هناك هو أنني صرت «دلوع»، لأنني تعاملت مباشرة مع شمس الدوحة التي وصفتها بـ«جهنم» لنحو سبع دقائق طوال النهار، نحو نصف دقيقة من داخل البيت الى السيارة ومثلها نزولا من السيارة ودخولا إلى البيت، وما مجموعه ست دقائق من السيارة الى المكتب والعكس، وفي سيارتي مكيف هواء هو الذي جعل شعري يشيب قبل الأوان من فرط قوة تياره الذي «طيّر» لونه الأسود، وفي البيت والمكتب مكيفات تنسيك أن «الدنيا صيف».
ووصفت نفسي بالدلوع لأنني لم أجلس تحت مروحة على نحو منتظم إلا في قاعة «ون أو تو 102» الشهيرة في كلية الآداب بجامعة الخرطوم (في أول أسبوع لنا في الجامعة، حاول زميل قروي التسلل من الباب الخلفي للقاعة خلال محاضرة لـ«مس كوك» التي بدأت السنة بتدريسنا «أنشودة البحار القديم/ ذا رايم أوف ذا إينشانت مارينر» للشاعر الإنجليزي سامويل كولريدج، وكان صوتها خافتا كهدهدة الأم يجعلك تحس بالنعاس، ولكنها كانت ذات ابتسامة ساحرة تشدك إليها وكي لا يودي بالك ويجيب فقد كان عمرها فوق السبعين وقتها وانظر حال نفس تلك الجامعة اليوم وهي تقول لمن بلغ الستين: راحت عليك، أدينا عرض أكتافك المهم أن صاحبنا كان في المدرجات الخلفية وكلنا نعرف أن الصفوف الخلفية في حجرات الدراسة هي المكان المفضل لمحبي الهرج والمرج والزوغان.. المهم ما أن شرعت مس كوك في الكتابة على السبورة حتى حاول صاحبنا القفز إلى الخلف بالصعود فوق حافة المقعد فاصطادته مروحة أراحتنا من المحاضرة لأننا هرعنا لإسعافه، ولحسن حظه فإنه كان ذا رأس ناشف فلم تسبب له المروحة سوى جرح سطحي، ولكننا عملنا منها شغلانة كي ننهي المحاضرة.
في الرمضانات الصيفية في بلدتي بدين وفي غيرها كان الناس يلجأون نهارا إلى المزيرة، فما من بيت في السودان إلا وكانت به غرفة مكشوفة من جانبين تضم عدة أزيار ماء فخارية، وما من زير محترم إلا ويسرب بعض الماء وبالتالي تكون أرضية المزيرة رطبة بل وباردة، وانتقلت الى كوستي وكنت فخورا لأن بيتنا مسقوف بالزنك (هذه أكذوبة سودانية، أعني ما هو شائع من تسمية ألواح الحديد المتعرجة بـ«الزنك»، لأن الزنك معدن نادر وغالي الثمن)، وتضرب الشمس سقف الزنك وأنت داخل غرفة فتحس أنك وقعت في قبضة أكلة لحوم بشر وضعوك في قدر ضخم لطبخك، ولكن العجيب في الأمر أننا لم نكن نشكو من الحر كما صرنا نفعل بعد أن عرفنا المكيفات والثلاجات.. فعلا ابن آدم «مفتري».. يا جماعة والله لم يكن في بدين التي نشأت فيها بيت واحد فيه شباك، لأنه لم تكن بأهلنا طاقة برياح السموم الكاوية أو برد الشتاء القطبي، ثم بلغ بي الدلع حتى قبل أن امتلك سيارة أن أسأل سائق سيارة التاكسي: عندك مكيف؟ فإن قال «لا»، قلت له: الله يلوي رقبتك.. افتراء أم لا؟
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]