أحمد سعد واللون الأسود
من عجائب عهدنا بكراسي الدارسة، أن اختيار المعلمين والنُظار (مديري المدارس) كان يقوم على أسس مهنية بحتة، كما هو الحال في كل أوجه الخدمة المدنية، وكان ناظر مدرسة وادي سيدنا الثانوية عندما التحقنا بها هو الأستاذ أحمد سعد، وكان ذا شخصية قوية ومهابة، قليل الكلام ومنضبطا بدرجة أنه كان يقوم بتقديم دروس في الكيمياء (وهي مادة تخصصه) إذا غاب مدرس المادة لسبب طارئ، ولم يكن مديرو المدارس مكلفين بالتدريس إطلاقا، فأعباء إدارة مدرسة تبلغ قيمة أصولها نحو مليار دولار (بأسعار اليوم وليس في الأمر أي مبالغة)، كان يتطلب التفرغ الكامل لشؤون الإدارة، وعرفنا لاحقا أن أحمد سعد كان شيوعيا على السكين، وكان الحزبان المسيطران على الساحة هما «الوطني الاتحادي» بزعامة إسماعيل الأزهري و«الأمة» بزعامة الصديق المهدي، وكلاهما كان يعتبر الشيوعية خطرا ماحقا على نفوذهما ولكن مع هذا لم يكن أي رئيس او وزير يستبعد شخصا من منصب ما بسبب توجهاته السياسية، وبعدها بقليل تم تعيين أحمد سعد ملحقا ثقافيا في السفارة السودانية في لندن، ويحكي صديقي مأمون عوض (وقد تزاملنا منذ المرحلة المتوسطة إلى الجامعية) كيف أنه التقى بسعد في لندن في نحو عام 1977، وجالسه في مقهى وتبادل معه حديث الذكريات، فحكى ناظرنا السابق لمأمون كيف أنه (وكان شديد سواد البشرة وعلى خديه خطوط الفصادة الأفقية الثلاثة التي تميز المنتمين الى قبيلة الشايقية)، حكي كيف أنه كان جالسا في قطار وبالقرب منه طفلة تنظر إليه وهي في حالة ما بين الدهشة والرعب، وقال أحمد سعد إنه التفت إليها وحياها بالإنجليزية فما كان من الطفلة إلا أن صاحت لأمها: ماما إت كان توك It can talk و«إت» في الإنجليزية تستخدم للإشارة إلى كل شيء غير ناطق، أي ان تلك الصغيرة حسبت ناظرنا «شيئا/ جمادا» وتعجبت من قدرته على الكلام، وأذكر ما حكاه مدافع فريق الهلال والمنتخب الوطني الفذ أمين زكي، عندما زار الفريق يوغسلافيا لأول مرة ولاحظ أن هناك طفلة صغيرة تنظر إليه وتحاول الاقتراب منه فشجعها على ذلك وربت على رأسها، فمدت منديلها ومسحت به يده، ثم نظرت إلى المنديل وهي مندهشة، فقد كانت تلك أول مرة ترى فيها تلك المسكينة شخصا أسود البشرة، بل لم تكن تعرف أن هناك أجناسا في الكون غير البيض، وحسبت لون كابتن أمين زكي صبغة مؤقتة، ولهذا أصابتها الدهشة عندما لم تجد أثرا للسواد في المنديل الذي مسحت به يد كابتن أمين، ولعين هذا السبب كتب شاعرنا الطيب العباسي قصيدته الرائعة التي تغنى بها الطيب عبدالله «يا فتاتي ما للهوى بلد» والتي يقول فيها لبنت الخواجات التي جرحت عواطفه: ألأن السواد يغمرني/ ليس لي فيه يا فتاة يد/.. لى بدنياي مثلما لكمو/ لى ماض وحاضر وغد/ سوف تنأى خطاي عن بلد / حجر قلب حوائه صلد
آه يا زمن: الخواجات يعايروننا بالسواد ثم ينفقون المليارات لاكتساب السمرة بالجلوس تحت الشمس المحرقة، وبالمناسبة فلإنسان الأسود أقل عرضة لسرطانات الجلد الناجمة عن التعرض لأشعة الشمس، والصيف في السودان يمتد الى نحو عشرة أشهر، تجلد خلالها أشعة الشمس الجلود ثم تنكسر راجعة حسيرة وهي تخاف على نفسها من السرطان، وبالمقابل صارت البنت السمراء «تستعر» من لون بشرتها وتشتري السرطان بحر مالها، ليصبح لونها فاتحا، وهكذا ظهر في السودان جيل مبرقع ومرقط مثل الفهد من الفتيات، الوجه فاتح والرقبة بيضاء واليد سمراء والساق فحمة
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]