الأبيض والأسود كان أروع
كان التلفزيون أعجب ما شهده جيلنا من منتجات القرن العشرين، وبدأ البث التلفزيوني في السودان عام 1962، ولم يكن هناك بلد عربي يعرف التلفزيون وقتها سوى العراق، وبداهة فقد كان امتلاك تلفزيون في ذلك الزمان حصرا على الطبقات الغنية جدا، ولكن الحكومة وزعت عددا منها في الحدائق العامة، وهكذا كنت تمرّ بأي ميدان في العاصمة السودانية المثلثة وتجد به آلافا مؤلفة في الأمسيات، وما كان ممكنا لمن يكون وراء الصف الخامس عشر أن يرى سوى أشباح هلامية تتحرك، وكنت تسمع جماهير هذه الصفوف تتصايح: دا منو؟ وقال شنو؟ وكان مثل هذا السؤال يطرح عندما يظهر على الشاشة سيادة الرئيس او أحد الوزراء، ثم صارت المسألة تجارة، فبعض الأندية الصغيرة وبعض البيوت اشتروا أجهزة تلفزيونات ووضعوا تسعيرة للفرجة: الساعة بقرش واحد، وأنت وحظك، فقد تختار الساعة الأولى من بدء الإرسال فيكون نصيبك النشيد الوطني والقرآن الكريم ثم عرض البرنامج، وإذا أردت تمديد المدة تدفع قرشا إضافيا، أما إذا كانت هناك مباراة مهمة أو حفل غنائي كبير فكان بإمكانك دفع خمسة قروش لمتابعة الإرسال من البداية إلى النهاية، وقد يتفاخر جيل الشباب بأن البيت الواحد على أيامنا هذه صار فيه ما بين جهازي تلفزيون وأربعة معظمها ذات شاشات رفيعة ورشيقة، وكمان إتش دي، صورها ذات دقة عالية، ولكن ما قيمة تلك الأجهزة إذا كانت تبث برامج تسبب الاضطرابات الهضمية والهلوسة والقرف؟ فالتلفزيونات الحكومية تنقل أحاديث الإفك وتستفز العقل وتتحرش بالدماغ لاستدراجه إلى معركة غير متكافئة يكون فيها الدماغ هو الخاسر، ولهذا تجد بعض مدمني التلفزيونات الرسمية يتميزون بعقلية القطيع الذي يسهل تطويعه وتحريكه، لأن الواحد منهم يصبح «قفة» لا تملك من أمر نفسها شيئا، أما التلفزيونات التجارية فإن معظمها إما مأجور لجهة ما وتسبّح بحمد هذا الصنم أو ذاك، أو تعتمد على كسب المشاهدين بالتحرش الجنسي، أو بالمسابقات التي توهم المشاهدين بأن الثراء المفاجئ بأن يرسل الواحد منهم رسالة قصيرة عبر الهاتف الجوال إلى رقم ما، وقد يكسب أحدهم جائزة ضخمة ولكن يغيب عن جيوش المستغفلين أنهم – وليس القناة التي عرضت الجائزة – من دفع عشرة أضعاف قيمتها لأن تكلفة الرسالة القصيرة التي تبعث بها تكون مائة ضعف الرسائل النصية العادية، وهذه خدعة تشترك فيها شركات الاتصالات مقابل نسبة مئوية من فلوس المشاهدين الحالمين بالثراء المفاجئ.
التلفزيون على أيامنا كان غير شكل، وحاجة تانية خالص، فكل المواد كان بثها مباشرة بالأبيض والأسود، ولا مجال للخطأ وبالتالي لم يكن يعمل في التلفزيون إلا ذوو العود المهني القوي، وعندنا في السودان كان حمدي بدرالدين – شفاه الله وعافاه – يقدم برنامج «فرسان في الميدان» وفي ذات حلقة أمسك بالمايكرفون الموسيقار المعروف بشير عباس وكال السباب لأشهر ناقد فني عرفه السودان (سليمان عبدالجليل) الذي كان قد انتقده في مقال صحفي، فاتصل وزير الإعلام (عمر حاج موسى) بإدارة التلفزيون التي سربت قصاصة صغيرة إلى مقدم البرنامج بدرالدين الذي قرأ الورقة التي وصلته من الوزير ثم قال لبشير عباس: ما يجوز تشتم أو تنتقد شخصا غير موجود معنا ولا يملك حق الرد عليك، ومن ثم أرجو الاعتذار لسليمان عبدالجليل، وبعد أن كرر بدرالدين المناشدة عدة مرات وبشير يرفض الاعتذار على نحو قاطع، صاح بدرالدين: يا أخي الله يخليك اعتذر، ما تخرب بيتنا!! وبداهة فقد أدرك المشاهدون أن الرجل تلقى تلك الورقة من سلطة عليا، وبعد انتهاء البرنامج تلقى بدرالدين مكالمة هاتفية من الوزير جاء فيها ما معناه: ليتك تركت بشير يشتم كما يشاء بدلا من إعطاء المشاهدين الانطباع بأن هناك من يحمل سيفا فوق رقبتك.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]