لن تصدق أنني أتكلم عن مدرسة سودانية
كانت الساعات الأولى من اليوم الأول لنا في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، من أجمل لحظات عمرنا، أخذا في الاعتبار أن معظم طلاب المدرسة كانوا قرويين من شمال السودان، وبعد أن استمتعنا بالصعود إلى الدور الثاني من مبنى المدرسة عشرات المرات، تم تنبيهنا للتوجّه إلى لوحة الإعلانات ليعرف كل منا اسم مسكنه (الداخلية)، وكانت داخلية أبو قرجة من نصيبي، وكان موقعها استراتيجيا لأنها كانت تجاور قاعة الطعام، وكنت فخورا بكون مكان إقامتي يحمل اسم بطل مغوار شارك في حروب المهدي التي انتهت بتحرير السودان من الحكم التركي، وإلى الشمال منه كانت داخلية «جمّاع» تخليدا لذكرى ملك «العبدلاب» الأشهر عبدالله جمّاع (من أصل حجازي) مؤسس أول مشيخة إسلامية في السودان، وهو الذي أوقف دفع الأتاوات إلى ملك علوة النوبي المسيحي، ثم قضى على نفوذ النوبيين في منطقة النيل الأزرق وما يعرف اليوم بالخرطوم، وإلى الجنوب من قاعة الطعام كانت داخلية (المختار) تخليدا لاسم المجاهد الليبي عمر المختار، ورغم أن مدرسة وادي سيدنا أسسها البريطانيون، على غرار مدارس النخبة في بلادهم (هارو وإيتون)، فإنهم سمحوا بمنح مسكن للطلاب اسم مجاهد مسلم لأن المختار حارب الطليان، وكان الطليان قد شنوا غارات جوية على السودان خلال الحرب العالمية الثانية بحكم وجودهم في إثيوبيا وإرتريا وتحالفهم مع النازي هتلر، (والذاكرة السودانية مازالت تختزن القنبلة التي أسقطتها طائرة إيطالية على عاصمتنا فلم تقتل سوى بائعة لبن اسمها كلثوم التي خلدتها أغنية شائعة إلى يومنا هذا: طيارة جات بي فوق/ شايلة القنابل كوم/ جات تضرب الخرطوم/ ضربت حمار كلتوم/ ست اللبن)، وإلى الجنوب من داخلية المختار كانت «الداخل» تخليدا لعبدالرحمن الداخل (صقر قريش ومؤسس الدولة الأموية في الأندلس) ثم كانت داخلية ود البدوي (على اسم الشيخ الفقيه العالم محمد البدوي الذي كان قاضيا في أم درمان حتى وفاته عام 1911)، ولاحقا تم التوسع في استيعاب الطلاب في المدرسة، وتم تخصيص مبان ذات طابق واحد كمسكن يحمل اسم رائد تعليم المرأة في السودان الشيخ بابكر بدري.
وكانت كل داخلية مجمعا مستطيل الشكل تشغل غرف السكن ثلاثة أنحاء منه بينما كان ضلع كامل من المستطيل مخصصا للحمامات وحنفيات الوضوء، وتتوسط كل داخلية مساحة خضراء، وكان في الناحية الشرقية لكل داخلية طابق علوي به مظلة تغطي جزءا منه ولم يكن ذلك الطابق ذا نفع إلا للمدخنين لأنه يضمن لهم تفادي الكمش والعقوبة، فقد كان بكل داخلية مدرس مقيم يحمل مسمى ضابط الداخلية، وبين كل داخلية وأخرى ملعبان بالحشيش الأخضر لكرة السلة والكرة الطائرة (هذا طبعا غير الميادين المبلطة المخصصة للمباريات الرسمية)..
وفي وادي سيدنا رأيت للمرة الأولى أناسا يمسكون بأشياء تشبه الغربال ولكل منها مقبض طويل يضربون كرة صفراء صغيرة عبر شبكة قصيرة وقالوا لي إنهم يلعبون شيئا اسمه «التنس»، وكان بالمدرسة ملعبان للتنس وإلى الشمال منهما حوض سباحة أولمبي وكشخص نشأ في شمال السودان (لم أقل ترعرع لأنني لا أحسب أنني ترعرعت أبدا) فقد كانت السباحة هي الرياضة الوحيدة التي استطيع ممارستها، وكان ناظر المدرسة المتوسطة يلقبني بـ «عموش» لأنه لاحظ أنني لا استطيع قراءة ما على السبورة إلا بالاقتراب منها، وضعف النظر حرمني من ممارسة كرة القدم، وفوق ضعف النظر كنت سمينا مبغبغا من النوع الذي تتقطع أنفاسه إذا جرى أكثر من دقيقتين، وسبحان الله فبمجرد بلوغي المرحلة الثانوية تبخرت الشحوم من جسمي وصرت رشيقا رغم أنني لم أمارس أي رياضة.. حتى في السباحة اكتشفنا أن طريقة العوم في النيل تختلف عن العوم في حوض ماء راكد وفوق هذا كله كان بعض الملاعين من أولاد البندر يمارسون عمليات كاميكازي بصعود منصة عالية في طرف حوض السباحة ثم الاندفاع نحو الماء ورؤوسهم إلى أسفل واكتشفنا أن إتقان ذلك النوع من القفز الانتحاري ضروري للمشاركة في فرق السباحة، فتركت الحوض واعتزلت الرياضة نهائيا.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]