مدرسة أم قصور «لوردات»؟
كانت الشاحنات تنقل طلاب مدرسة وادي سيدنا الثانوية بعد العطلات من أماكن معلومة في الخرطوم وأم درمان وتتجه بهم شمالا وهي تشق منطقة مغطاة بالنباتات والشجيرات، وعبرنا «خور عمر» وهو النقطة التي انطلقت منها قوات انقلاب مايو 1969 بقيادة جعفر نميري، وفجأة وجدنا أنفسنا أمام سلسلة من المباني الفخمة التي تشبه في كل تفاصيلها القصور الريفية لنبلاء إنجلترا، ولم يكن أي منا يتخيل أن مبنى أجمل من القصر الجمهوري نفسه يمكن أن يكون المدرسة التي سنتلقى فيها تعليمنا، وكان شارع مسفلت يشق تلك المباني وعلى يميننا ويسارنا بيوت متقنة المعمار عرفنا لاحقا أنها مساكن المعلمين وبكل منها حدائق غناء، ورأينا مجمعات سكنية ضخمة محاطة بأشجار البلوط والجميز، وقيل لنا في ما بعد إنها أماكن سكننا (الداخليات)، يا ما أنت كريم يا رب.. أخيرا يا جعفر بن عباس الذي لا يبوس ولا ينباس، ستقيم في سرايا، ونزلنا من الشاحنات وتوجهنا نحو المبنى الرئيسي للمدرسة: إيه دا؟ مدرسة ثانوية أم فندق في هوليوود، فتصميم المبنى على شكل حدوة أو حرف «يو» الإنجليزي، ففي القسم الشرقي منه مكتب الناظر (المدير)، وتجاوره المكتبة، ويقابله مكتب نائبه ويجاوره مكتب البيرسر (أمين الخزينة) ثم قاعة محاضرات ضخمة بمدرجات تتسع لأكثر من ألف شخص، وكل تلك المباني على ارتفاع نحو مترين من سطح الأرض وفي وسطها ساحة جميلة تستخدم كمسرح في المناسبات العامة وتجلس فيها هيئة التدريس خلال ما يسمى الـ«أسمبلي»، وهو الاجتماع العام الذي يحضره كل الطلاب لتخاطبهم الإدارة في مختلف الشؤون، وأهم أسمبلي ينعقد في اليوم الأول من العام الدراسي حيث يقوم الناظر بتعريف الطلاب بالمدرسين وتخصصاتهم ويكون الطلاب جلوسا على نجيل أخضر حسن التشذيب.
أما الروعة والإبهار فكان في أن المدرسة من طابقين، وكانت حجرات الدراسة في الناحية الجنوبية من المجمع بينما كانت الناحية الشمالية مخصصة لمختبرات العلوم واستوديو الفنون، وقبلها لم يصعد 99% من الطلاب الجدد إلى ما بعد الطابق الأرضي لمبنى ما، إلا إذا كان أحدهم مطالبا بترقيع شيء في سقف بيتهم قبل فصل الخريف أو لالتقاط كرة سقطت على السقف.. وحتى بعد أن تمدّنت وطلعت ونزلت في مبان ذات عدة طبقات مازال بهاء الطابق العلوي في المدرسة عالقا بذاكرتي فقد كانت أعمدة الجرانيت ترتفع من الأرض حتى سقف الطابق العلوي، مما أعطى المباني شكل القصور الرومانية، وعملنا من الطلوع والنزول في السلالم (الدرج) شغلانة، وتخيل حجم دهشتنا عندما صعدنا إلى حجرات الدراسة ووجدنا أمامها ممرا يسمح بسير حافلة وقطار متجاورين، وعلى الجانب الآخر ممر مشابه يمتد بطول غرف الدراسة، وقالوا لنا إن هذا الممر بالتحديد اسمه «بلكونة»، وكنت قد سمعت بالكلمة من أفلام مصرية: يا بنت واقفة ع البلكونة بتعملي إيه؟ وكانت البنت المعنية وقتها تغازل ابن الجيران بلغة الإشارة والغمزات، ولكن البلكونة التي رأيناها في الأفلام كانت «بالكتير» مترين في متر بينما كان طول بلكونة مدرستنا نحو 40 مترا وعرضها نحو أربعة أمتار، وعبر نافذة في الطابق العلوي رأيت مبنى محاطا من الجهات الأربع بزهور وورود وشجيرات متسقة الطول، ومددت عنقي لاستكشف المزيد عن تلك البقعة التي حسبتها حديقة عامة فإذا بها مسجد المدرسة، وعشت وشفت مئات المساجد، ولم أر حتى الآن واحدا في جمال مسجد مدرستنا تلك، وصار من المألوف أن يفرغ الطلاب من الصلاة ثم يتوزعون في أرجاء حديقة المسجد ليتسامروا لساعات طوال.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]