جعفر عباس

الثراء والانحراف

[JUSTIFY]
الثراء والانحراف

لم نقترب من القرن العشرين على نحو ملموس إلا بعد الالتحاق بالمدرسة الثانوية، ومع إعلان التحاقنا بها توالت «البركات»، فقد كانت المدرسة تقع إلى الشمال من أم درمان الأخت الكبرى للخرطوم، وقلب النشاط الثقافي والسياسي والرياضي والفني في السودان، وكان معنى ذلك باي باي شمال السودان، والأمر الذي لا يعرفه كثيرون، هو أنني خرجت من شمال السودان وبلدتي بدين، فور التحاقي بمدرسة وادي سيدنا الثانوية ولم أعد حتى الآن، ولكن بلدتي ومنطقتي محفورة في ذاكرتي ووجداني، ولهذا احتفظ بتفاصيلها واستطيع استدعاءها واستحضارها بدقة (طوال السنوات الأربع التي قضيتها في «وادي سيدنا» الثانوية، لم أنجح في معرفة من هو «سيدنا» الذي ارتبط اسمه بالمنطقة تلك ولماذا سميت «وادي» مع أنها كانت سهلا منبسطا لا تحيط به أي مرتفعات).
أهم بركات الانتقال إلى المرحلة الثانوية كان قرار الوالد برفع مصروفي الشهري إلى جنيه كامل، مقرونا بتحذيري من الانحراف بسبب توفر «السيولة النقدية»: ماكل وشارب وساكن وتسافر من وإلى المدرسة ببلاش على حساب الحكومة.. لازم تكون ولد كويس ولا تبعزق ثروتك في الهلس.. ولكن توفر السيولة شجعني على الانحراف وانضممت إلى نادي المدخنين، ولم أنسحب من ذلك النادي إلا بعد انعدام السيولة بعد دخولي الحياة العملية! وكان هناك ركوب القطار من مدينة كوستي التي صارت وطني الثاني إلى الخرطوم مرتين في السنة ببلاش.. ولكن أهم نقلة صاحبت دخولي المرحلة الثانوية كانت اقتناء أول بنطلون في حياتي، ومن باب ترشيد الإنفاق لم أكن أرتدي ذلك البنطلون إلا في الحفلات المدرسية أو خلال السفر، وهكذا صمد البنطلون أربع سنوات وتخلصت منه فور الالتحاق بالجامعة (لأنه مرحلة وعدّت)
وجاء اليوم الموعود وتم نقلنا بشاحنات تتبع لمصلحة النقل الميكانيكي إلى مدرسة وادي سيدنا، وكانت تلك المصلحة مسؤولة عن توفير السيارات والمركبات لكل أجهزة الدولة وتتولى إصلاحها وصيانتها، ولم يكن حتى رئيس الدولة يستطيع أن يصدر قرارا بشراء سيارة جديدة أو مكعكعة على نفقة الدولة.. لا، ليس من حق الرئيس تجاوز صلاحيات «النقل الميكانيكي»، فهي الجهة التي تحدد نوعية ومواصفات السيارات وعمرها الافتراضي ولديها سجل بكل سيارة حكومية واسم الجهة/ الشخص الذي يستخدمها، وكل من لديه سيارة حكومية يعرف أن عليه إعادتها إلى النقل الميكانيكي في تاريخ معلوم للفحص والصيانة، وكل بضع سنوات تعلن تلك المصلحة عن مزاد لبيع السيارات الحكومية التي ترى أنها أصبحت من ذوات الاحتياجات الخاصة.. يعني لا رئيس جمهورية ولا وزير يستطيع أن يشتري سيارة على حساب الدولة بـ«مزاجه» وعلى كيفه، ولا أن يتخلص منها بالبيع من وراء ظهر النقل الميكانيكي، ذلك زمان كانت فيه جهة ما تشرف على الأزياء الرسمية واقتناء كل مستلزمات أجهزة الدولة من المواد الاستهلاكية (لا يعني هذا الأطعمة بل اللوازم المكتبية إلخ)، اسمها «المخازن والمهمات» ولأن وجود جهات حكومية كتلك يمنع الهبر واللهف واللغف، كان لابد من إلغائها، هل تصدقون أنه من فرط الضبط والربط في أجهزة الدولة كان هناك مسؤول يتلقى حسب درجته الوظيفية بدل مواصلات، ومسؤول آخر يتلقى علاوة اسمها بدل حمار (في المناطق الريفية حيث يتعذر استخدام السيارات كان بعض مديري المدارس يشترون الحمير على نفقة الدولة وتمنحهم الدولة شهريا بدل علف لحميرهم.. هكذا كانت الدولة تتحسب لظروف موظفيها وتنصفهم حسب طبيعة عمل كل منهم وحسب طبيعة المنطقة التي يعمل فيها).

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]