هاك يا بُرّه
المسافة ما بين ترك نفسك على سجيتها والتصرف بأريحية عندما تكون وحدك بعيداً عن الأعين ومراقبة الآخرين، وما بين تصرفك حسب الضوابط والأعراف والخضوع لمعايير الصح والخطأ، عندما تكون ضمن نطاق مجتمع أو تجمع ما، هذه المسافة بين الحالتين تحكي عن مدى صدقك مع نفسك ودرجة الشفافية في تصرفاتك.
لأهلنا الكبار حكمة وفلسفة عميقة تجاه تلك المسافة بين ما تستطيع فعله في الخفاء وما تجبر على صنعه في العلن، فقد كانوا يقولون في معنى ذلك:(الزول بيلدوه عريان إلا لباس الهدوم من عيون الناس).
وفي هذا القول فهم فلسفي عميق، فرغم أن جميع الناس تتساوى من حيث الخلق ولكن تظل الملابس رمزاً للحد أو لستار الخصوصية ما بين أنت ونفسك وأنت والآخرين، وللطرفة القديمة والشهيرة (هاك يا بره) خير مثال للتبسيط والتدليل على تلك المسافة وهذا المعنى.
فالطرفة تحكي عن (المرة الشرفانة) والتي كانت تجلس ضمن مجموعة من المعازيم على سفرة العشاء في إحدى المناسبات، ورغم جوعها الشديد ولهفتها على (الهبر) والغوص في الصحون غوصاً، إلا أنها كانت مجبرة على الخضوع لبروتكول المائدة والأكل بأطراف أصابعها مع إدعاء الشبع وأنها تأكل (بس مجاملة) ما أكتر، ولكن عندما إنقطع التيار الكهربائي فجأة، ساد الظلام الدامس مسدلاً لها ستاراً من الخصوصية اللازمة لإنتقالها من قيد البرتوكول لحالة التصرف (بي راحتا) والإنسياق وراء (الشرفنة) الكامنة في دواخلها، لم تتوان في إنتهاز الفرصة السانحة وقامت بهبر لقمة بكبر (رأس العتوت)، ولكن إعادة التيار فجأة رفعت عنها الستار مرة أخرى لتجد نفسها مجابهة بعشرات الأعين والتي تنظر إلى لقمتها (ذات الحجم العائلي) بإستغراب، تلفتت وفي عينيها نظرة الغرقان الكايس ليهو قشة، ولكن مرور قطة المنزل بجوارها في تلك اللحظة كان لها بمثابة طوق النجاة فنادتها في سرعة بديهة:
تعالي هاك يا بُرَّه!
من أجل الحفاظ على تلك المسافة من الخصوصية نهانا الإسلام عن التجسس على الآخرين ومراقبتهم دون علمهم لما فيها من فضح السراير وتعرية الأنفس ولكنه أجاز ذلك في نطاق ضيق حيث سمح للخطيب أن يتخفى لمخطوبته حتى يرى منها ما يسره ويدفعه للزواج بها.
ومن طرائف الخطبة والتخفي للنساء لمعرفة ما خفي من طباعهن، ما قرأته على أحد مواقع التواصل الإجتماعي، فقد حكى أحد شباب الخليج أنه إستعان بشقيقته لتساعده في العثور على شريكة حياته، بعيداً عن نظام الخاطبات وتزيينهن لصفات العروسات والذي لا يتوخين فيه الأمانة دائما، وكان أن رشحت له الشقيقة إحدى صديقاتها المقربات ولكنه إشترط عليها رؤيتها أولاً وأن لا يكتفي بالصورة، ونسبة لتحرج المجتمع لديهم من ذلك خططت الشقيقة لأن تزورها الصديقة المعنية في بيتها دون أن تخبرها عن الموضوع ليترك لنفسه متسعاً لكب الزوغة اذا لم يرق له اختيار شقيقته، فاتفقا على أن يختبئ في الغرفة المواجهة لمجلسهن حتى يتمكن من التمعن في رؤية العروسة وخاصة بعد أن تتحلل من حجابها ..
جرت الأمور كما خطط لها واختبأ الشقيق يسترق النظر للصديقة عند حضورها، قدمت لها شقيقته علبة من الحلوى ثم تركت العلبة بجانبها على الطاولة ودخلت إلى المطبخ لتحضر لها الضيافة.
وما أن وجدت الصديقة نفسها وحيدة في الغرفة والتي يبدو أنها من عشاق حلوى الشوكولاتة حتى أسرعت (بخمش) مجموعة من قطع الحلوى وأدخلتها في فمها و(قعدت تكوضم) والأسوأ أنها قد أعجبت بطعم الحلوى (فخمشت خمشة) أخرى أكبر من سابقتها ودستها داخل حقيبة يدها ثم جلست (زي الما عملت شيء).
طبعاً الشئ المتوقع في هذه الطرفة أن تنتهي على هروب الخاطب من مشروع خطبة هذه الصديقة (جعانة الحلاوة) ولكن كل الطرافة كانت في أنه أعجب بتصرفها، بل وجد فيه نوعاً من الشقاوة وخفة الروح والتصرف على السجية.!
[/JUSTIFY]
منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]
[COLOR=#0005FF][SIZE=5][FONT=Tahoma]والله يا بنت سلمان مبدعة ومن غير مجاملة، حفظك الله.[/FONT][/SIZE][/COLOR]