وبدأنا الانتماء التدريجي للقرن العشرين
كنت ضمن أقلية هزيلة «شافت» الكهرباء في مدرسة البرقيق المتوسطة، وذلك أنني كنت قد سافرت إلى أبي في مدينة كوستي مرورا بالخرطوم في ذات إجازة، وكان النظام الدراسي في تلك المرحلة يقتضي أن تكون هناك ساعة ونصف للمذاكرة الإجبارية في حجرات الدراسة تحت إشراف مدرس مناوب، وكانت تلك الدقائق التسعين تكفينا لأداء واجباتنا المدرسية المطلوبة في اليوم التالي، وإذا استشكل عليك أمر ما فالمدرس موجود لمساعدتك لوجه الله (لم يكن فيروس الدروس الخصوصية قد انتقل إلى السودان بل وحتى بعد أن تخرجت في الجامعة وعملت مدرسا بالمرحلة الثانوية لم أسمع بأن هناك زميلا يمارس التدريس بأجر في وقته الخاص، بل كان كل مدرس وعند اقتراب موعد الامتحانات يأتي بطلابه عصرا ليساعدهم في استيعاب الدروس الصعبة ومراجعة المنهج معهم بدون ان يتوقع حتى كلمة شكرا، لأننا كنا نحس بأننا ملزمون أخلاقيا بمساعدة طلابنا وكان يكفينا فخرا واعتزازا أن تنجح مدارسنا في بعث طلابها إلى مراحل عليا، بل والله العظيم عملت في العديد من المدارس وفي كل منها كان المدرسون يتبرعون في صمت بمبالغ معينة لشراء ملابس لطالب فقير على أن يتم تسليم الملابس بعيدا عن العيون، وأذكر حالات عديدة لطلاب فقراء رفضوا تلك الملابس لأن أهلهم لا يقبلون الصدقات). في فترة المذاكرة المسائية في المدرسة المتوسطة كانت حجرات الدراسة تضاء بمصابيح تحمل الواحد منها مسمى «الرتينه» تعمل بالجاز الأبيض (الكيروسين)، ومصدر الضوء فيها كيس ناعم يشع ضياء كلما استخدمت أصبع الضغط المسمى «الكبّاس»، وكانت الرتينة الواحدة ترسل ضوءا يعادل ضوء ستة مصابيح كهربائية من الحجم المتوسط، ومن آيات البرجزة (أي الانتماء إلى البرجوازية المنغنغة) في تلك المرحلة كان امتلاك فانوس صغير (أبو كف) يعمل بالكيروسين لاستخدامه في المذاكرة بعد أن يحل الظلام الشامل كل أرجاء المدرسة بإطفاء الرتاين وقرع جرس النوم، ففي المرحلتين المتوسطة والثانوية كان يتم إطفاء الأنوار وإرغام جميع من يقيمون في السكن الداخلي على الصمت والنوم.
ولم تقتصر الطفرات الحضارية في تلك المرحلة على أكل الرغيف جلوسا إلى مائدة خشبية أنيقة، أو امتلاك الكاش لشراء ما تيسر من حلوى، أو العيش في غرفة بها بلاط من الأسمنت، بل كان من أكثر ما فرحنا به وجود حمامات.. نعم لم يكن بها دُش، ولكن المهم أنه لم يكن بها طشت، وكانت له جدران تسترك، وكنا نستخدم صابونا يحمل اسم «صافي» ورغم أنه كان مخصصا لغسل الملابس إلا أن رائحته كانت طيبة بعكس الصابون الذي كانت أمهاتنا يفركن به جلودنا بعد أن يتناولنه من طشت غسل أواني المطبخ، واكتشفنا في سنوات لاحقة أن الاستحمام يتطلب وجود فوطة تسمى «البشكير» لتنشيف الشعر والجلد بعد البلل، ولكننا في ذلك الزمان كنا نستحم ثم نرتدي ملابسنا فورا فتبتل الملابس وينشف الجلد، وبصراحة كانت ملابسنا في كثير من الأحيان غير قابلة للبلل بسبب التخشب الذي يصيبها لأنها كانت تقوم مقام الفوطة والمنديل، ولكن مدير المدرسة غرس فينا بالكلمة الطيبة حينا وبالضرب حينا آخر حب النظافة فصرنا نغسل ملابسنا جيدا بل ونقلنا إلى القرن العشرين عندما اشترى لكل تلميذ على نفقته الخاصة فرشة أسنان وأنبوب معجون كولجيت، بعد أن كنا نستخدم الجزء الرفيع من جريد النخل الأخضر للسواك، مع أن شجر الأراك الذي ينتج أفضل أنواع المساويك كان ينمو كنبات طفيلي في منطقتنا خاصة في «حوض السليم».
وسبحان الله دارت الأيام وصار عندي عيال ويا ما صرخ أحدهم في وجهي: ليه شايل البشكير بتاعي؟ ما في زول يشيل بشكيري .. مفهوم؟ بصراحة مش مفهوم لأنه حتى بعد اكتشافنا للبشكير كانت قطعة واحدة منه في خدمة جلود جميع أفراد العائلة.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]