في ذكرى عام المعجزات والغرائب: دروس أسدية في الديمقراطية
(1) لم يكن عام 1989 عاماً عادياً بأي المقاييس. وفي منتصفه، شددت الرحال إلى باريس في ضيافة أصدقاء أعزاء من أهلنا الكرام من النوبة، لمشاركة الآلاف الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة الفرنسية، ذلك الحدث المزلزل الذي غير وجه العالم وأصبح فخر الشعب الفرنسي. وكانت تلك مناسبة لتأملات عميقة في مصائر الشعوب وأقدارها.
(2) في باريس تلك الأيام، لم تكن الثورة وذكراها هي الحدث الطاغي في الأخبار والتأملات والجدل، بل كان الأغلب على السجالات حدث وقع الشهر السابق في العاصمة الصينية بكين، وهو سحق ثورة الشباب في ميدان «تيان آن مين». وقد ساد كثير من الدهشة والغضب الخطاب حول تلك الأحداث الدامية التي لم يعد مثلها مقبولاً في هذا العصر، كما تم تجسيد تلك الأحداث وأبطالها في الاحتفاليات بمئوية الثورة.
(3) تزامن مشهد سحق ثورة «تيان آن مين» مع مشهد آخر، هو جنازة آية الله الخميني الذي رحل عن الدنيا بعد عشر سنوات ملأ فيها الدنيا وشغل الناس. وكان الخميني قاد بدوره ثورة غيرت وجه المنطقة، وكان المدهش أن الملايين خفوا للمشاركة في جنازته، رغم ما شاب الثورة من سلبيات وصراعات داخلية وخارجية وحروب وقهر وظلم طال حتى أبناءها.
(4) حل عيد الأضحى ونحن في رحاب باريس، وبعد صلاة العيد في أحد مساجدها، استمعنا إلى خبر ذكرنا بـ «ثورة» أخرى حديثة لم تتضح معالمها بعد. فقد أوردت إحدى الإذاعات العربية تصريحاً للعميد عمر حسن أحمد البشير، قائد الانقلاب العسكري في السودان، جاء فيه أن حكومته لن تمانع في فصل الجنوب إذا كان ذلك يؤدي للسلام. أثارت التصريحات كما لا يخفى لغطاً لم ينته بعد. ولم نكن نعلم حينها من هو البشير ولا هوية انقلابه.
(5) الاحتفال الحقيقي بالثورة الفرنسية جاء في نهاية ذلك العام، حين تهاوت عروش كثيرة، وانهار جدار برلين، ودكت ثورات الشعوب في أوروبا الشرقية صروح دكتاتوريات جثمت على الصدور لعقود طويلة. فكم من طاغية ظن أن سجونه وترساناته مانعته من الله، تحول بين عشية وضحاها إلى طريد أو سجين أو قتيل. وسبحان من لا يدوم لغيره ملك!
(6) يمر هذا الشهر ربع قرن على بعض تلك الأحداث، وقد تغيرت معالم كثيرة، وانطلقت ثورة عربية كبرى غيرت بدورها وجه العالم، وسيكون لها ما بعدها. ولم تعد الصين هي الصين، ولا فرنسا هي فرنسا ولا إيران هي إيران. ولكن شيئا واحدا يبقى ثابتاً، وهو أن ثورات الشعوب لا مرد لها، ويقظتها لا نوم بعدها. فقد تتعثر الثورات كما تعثرت الثورة الفرنسية، ولكن الشعوب ما تزال تحتفل اليوم بانطلاقة تلك الثورة لا تاريخ نجاحها.
(7) ما أكثر الأحداث الجسام التي مرت بمنطقتنا، وكلها تحتاج إلى التذكر والتأمل، وأكثر تذكرها يؤلم ويفطر القلوب. وقد مرت بالأمس ذكرى نكبة حزيران (والتي اخترع لها هيكل اسم التدليل «نكسة»)، التي هزمت فيها أنظمة الطغيان في مصر وسوريا شر هزيمة. ولكنها بدلاً من أن تستقيل وتترك الشعوب لتختار طريقها كما حدث في الأرجنتين واليونان وكل بلد يحترم نفسه، قررت أن تستمر جاثمة على صدور الشعوب. بل صالحت العدو واستمرت في شن الحرب على الشعوب.
(8) كانت أم الإهانات أن طاغيتي مصر وسوريا اختارا يوم النكبة ليعلن كل منهما أن الشعب قد انتخبه رئيساً، رغم أن الشعب السوري خرج ولم يعد، والشعب المصري لم يخرج من بيته ليشارك في هذه المهزلة. بل إن سوريا نفسها خرجت ولم تعد. يكفي أن النظام هناك نظم «انتخابات» في حمص المدمرة والمهجورة. والسؤال هو أين وجد مبنىً يضع فيه صناديق الاقتراع المزيفة بعد أن دمر كل شيء هناك؟
(9) في عصر الثورات، لا معنى لمثل هذه التمثيليات التي تخدع أصحابها فقط. فهم يعلمون قبل غيرهم أن من «يصوت» بـ «السوط» هو عدو مبين وليس مناصراً. ولهذه الأنظمة بالطبع وللأسف مناصرون، كما كان لهتلر وفرعون وميلوسوفيتش. وفي القرآن أن النار تفيض بكثير من النادمين يحتجون بأننا «أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل». ومزابل التاريخ كذلك.
(10) خلال الأيام الماضية، شددت سلطات النظام الشيوعي-الرأسمالي الصيني القمع على من كل يريد إحياء ذكرى مجازر تيان آن مين، واعتقلت ومنعت وحجبت. وهذا وحده يؤكد أن تلك الذكرى ما تزال حية، وأن تلك الثورة، مثل الثورة الفرنسية، قد تختفي جمراتها تحت ركام كثير من القمع والتناسي، ولكنها لا تخبو قط. فالدكتاتور إرهابي يعيش في رعب أكثر من ضحاياه.
وبنفس القدر، فإن الشعب العربي الذي استيقظ في مطلع عام 2011، لن يعود إلى كهف السبات مرة أخرى. فنحن نتفرج اليوم على الكوميديا التراجيدية لأنظمة تمشي وهي ميتة.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]