جعفر عباس

ودخلت السينما ويييييه

[JUSTIFY]
ودخلت السينما ويييييه

عندما وصلت مدينة كوستي في السودان الأوسط، في إجازة صيفية بعد إكمال الصف الثالث الابتدائي، كنت أعجمي اللسان، ولا أفهم معظم ما يقال بالعربية العامية، وكانت تلك من عجائب الزمان فقد كنت في السنوات الأربع الأولى من طفولتي ناطقا بالعربية فقط، وما أن قضيت نحو عامين في بلدتي الأصلية جزيرة بدين حتى تعرضت خلايا اللغة في دماغي للغسيل الجاف المسمى dry cleaning فصرت نوبي اللسان تماما، وحدثتكم بالأمس عن أعجوبة الراديو الذي كان ثلاثة أشخاص في بلدتنا يملكون أجهزتها فنستمع من وراء الجدران للأغنيات البديعة التي لم نكن نفهم مفرداتها (ع. ص. كان معجبا بأغنية المطرب أحمد المصطفى التي يقول فيها: قربه يحنن/ وبُعدُه يجنن/ الهين وليّن/ وديع وحنيّن، ولكنها كانت تخرج من فمه: بوربور هنن / بوربور جنن/ هيا مليِّن… وطبعا لم يخطر بباله أنه ما من عاقل يقول في حبيبته عبر الإذاعة إنها ملين يزيل الإمساك).
كان أبي يملك مطعما محترما في كوستي ولك أن تتخيل مقدار إلى أي مدى كبر رأسي وانتفش وانتفخ عندما وجدت في المطعم راديو بحجم التلفزيون عشرين بوصة، ولم يكن مثل راديوات جماعة بلدنا بدين يعمل ببطارية أكبر من بطاريات شاحنات هذا الزمان، بل يا للسعادة كان مزودا بسلك مغروس في الحائط يتولى شفط الكلام والأغنيات من أتخن إذاعة، ولو كانت هناك كاميرات فيديو في ذلك الزمان لقمت بتصوير فيلم وثائقي يثبت أن عباس أب شنب لديه راديو «ملك حر»، وكانت هناك طفرات أكبر في انتظاري، فقد قادني شقيقي عابدين يوما إلى السينما، بنظام التسلل، يعني دون علم أبي، الذي كان يعتبر السينما من أكبر الكبائر، رغم أنه لم يكن قد دخل دارا للسينما قط وقتها، وربما خرج بذلك الانطباع لأن الإعلانات/ الدعايات للأفلام في الشوارع كانت في معظمها لحسناوات قليلات الحياء بضاعتهن معروضة على جدران العديد من المباني… ودخلت السينما.. يا للهول… أحسست بأنني جعفر ستوفر كولمبس، ولم لا وأنا سأكتشف عالما جديدا، ثم ماذا أنجز كرستوفر كولمبس كي يحفظ التاريخ ذكره: أرسلوه لاكتشاف طريق للهند، فوصل بلدا لا علاقة له بالهند،.. يعني فشل في مهمته الأصلية.. وربنا ينتقم منه فلو لم يكتشف ذلك الغبي أمريكا لما هاجر إليها الناس ولما ظهرت هذه الدولة التي تبلطج في كل القارات.
لم تكن اللائحة العائلية تسمح لنا بالتواجد خارج البيت بعد الثامنة مساء، وكان معنى هذا أن نشاهد نصف كل فيلم معروض ونكمل القصة من أخيلتنا الخصبة، وأذكر أن أول فيلم شاهدته كان مصريا عجيبا: يلوح شاب للحبيبة عبر الشباك وبعد قليل تجدهما يتباوسان، ويموت بطل الفيلم وتنوح النساء ثم فجأة تحدث عمليات بوس جماعي.. باختصار لم يكن فيلم عربي يخلو من نحو سبعين بوسة، وكان أكثر ما يثير اشمئزازي أن أرى رجالا يتباوسون ويسمون ذلك تحية، ومنذ أول فيلم عرفت أن والدي على حق عندما اعتبر السينما من أكبر الكبائر، ولأنني من عائلة محافظة فقد تحولت إلى أفلام الكاوبويات: ضرب نار في المليان ودم للرُّكب، ولا أثر لامرأة ما لم تكن قاتلة أو مقتولة، ولسنوات طوال ظللت اعتقد ان الأمريكان مؤدبون أكثر من العرب، ثم شاهدت نصف فيلم رومانسي فرنسي وجلست في دار السينما وأنا أغطي وجهي بكفي وأسرق نظرات من خلال الأصابع، وأنا غير مصدق أن الجمهور جالس يتفرج بدلا من أن يرمي الشباشب على برجيت باردو وأخواتها اللواتي كن يعانين من حساسية تجاه أي نوع من الملابس، وكي لا أعطي القارئ انطباعا بأنني كنت في قمة الأدب اعترف بأنني انحرفت وصرت لا أرى بأسا في تباوس أشخاص من الجنسين غير متزوجين، بل بلغت بي قلة الأدب أنني وقعت في غرام سعاد حسني، حتى توهمت أنها تحبني لأنها كانت تراني في كل فيلم لها جالسا و«الريالة» تنهال على قميصي وتغمز لي (من دون الناس بعينيها بخبث).
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]