يوغندا والجنوب..حيثيات إغلاق حدود…!!
نداءات (الكمسنجية) في مواقف البصات بأسواق العاصمة اليوغندية كمبالا، يمكن للمرء أن يسمع من بينها بوضوح (جوبا…جوبا).. فحركة السفر بين المدينتين، جوبا وكمبالا شهدت انتعاشاً لا مثيل له عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل وتوقف الحرب، ومع المسافرين تدفقت شحنات البضائع والسلع اليوغندية صوب الجنوب بأكمله، الذي أصبح سوقاً نصف محتكر للتجار اليوغنديين، وضع يجد تعبيراً أكثر دقة عنه في الأرقام التي تقيس نمو الصادرات اليوغندية العام الماضي.
ووفق تصريح ليورى موسفيني الرئيس اليوغندي في يونيو الماضي فإن صادرات بلاده زادت خلال العام الأخير بما قيمته مائتا مليون دولار، يرجعها المراقبون إلى توسع استهلاك البضائع والسلع اليوغندية في مناطق جنوب السودان.
هذه هي الصورة في العلن، أما في الخفاء فثمة أشياء أخرى طرأت حديثاً وفقاً لما نقلته صحيفة (ديلي مونيتور) اليوغندية يوم الجمعة بشأن قرار سرى اتخذته جهات عليا في الحكومة اليوغندية بمنع تصدير المواد الغذائية إلى الجنوب على خلفية تفشي المجاعة في المناطق اليوغندية الشمالية، وتم بالفعل منع شاحنات محملة بالموز كانت في طريقها إلى السودان من العبور قبل أيام، وقال مسئول في هيئة تطوير الصادرات اليوغندية إن جهات عليا أمرت بإيقاف تصدير السلع الغذائية بهدف الحفاظ على المخزون الاستراتيجي بالأسواق المحلية، لكن كاهيندا أوتافير وزير التجارة اليوغندي نفى وجود حظر مماثل، وقال (لا أعرف أي شيء عن أمر كهذا، ونحن نواصل تصدير جميع المنتجات الزراعية بشكل طبيعي).
ذات الصحيفة التي نقلت الخبر أبدت خشيتها من تأثير الحظر السري على العلاقات الدبلوماسية بين جوبا وكمبالا، علاقات بدأت منذ أيام الحرب عندما كانت يوغندا أحد الداعمين الإقليميين الرئيسيين للتمرد الذي قاده الجيش الشعبي لتحرير السودان، كما أن يوري موسفيني كان يعتبر من بين الأصدقاء المقربين لرفيق دراسته جون قرنق قائد الحركة الشعبية قبل حادثة تحطم طائرته فوق جبال الاماتونج واللغط الذي ثار حول الأصابع اليوغندية فيها، لغط يعتبر أحد مصادر توتر علاقات حكومة الجنوب بحكومة كمبالا، وسبق لقائدين في الحركة الشعبية الحديث علناً عن احتمال تورط اليوغنديين في قتل الزعيم قرنق، هما إليو ايانق وتيلار دينق.
وإذا كانت تحركات جيش الرب اليوغندي المتمرد داخل الأراضي السودانية سبباً آخر لتوتير الأجواء بين جوبا وكمبالا إلا أن إغلاق الحدود أمام السلع الغذائية لا يبدو سبباً كافياً للتأثير السلبي على علاقات وطيدة، فليس من المنطقي أن تغلق كمبالا حدوداً تدر عليها التجارة عبرها مئات الملايين من الدولارات سنوياً دون أسباب قاهرة كالمجاعة، ويقول د.أسامة زين العابدين المحلل السياسي الذي ألف كتاباً عن العلاقات السودانية اليوغندية أن النقص في أية سلعة يؤدي منطقياً إلى منع تصديرها من قبل الدولة وليس التجار الذين تجتذبهم الأسعار العالية في الجنوب، ويضيف أن مثل هذه السلوك عادي وتقوم به الخرطوم في بعض الأحيان عندما تمنع تصدير الذرة عبر الحدود إلى أثيوبيا، دون أن يعني ذلك توتر العلاقات بالضرورة.
الميزان التجاري بين يوغندا والجنوب يميل بشكل حاد لصالح الأولي، ويفيض الأخير بالسلع والتجار اليوغنديين، ويرجع زين العابدين هذا الوضع إلى كون الجنوب قد خرج لتوه من مرحلة حرب، وعدم امتلاكه للبنيات التحتية بعد، ويستبعد ان يقوم اليوغنديون بإغلاق الباب الذي تنساب منه تجارتهم نحو الجنوب في المدى القصير، لكنه يضيف أنهم ينظرون إلى الاستقرار في الجنوب كخطر عليهم على المدى الطويل، فالجنوب بمقدوره أن يسحب البساط من تحت كمبالا فيما يتعلق بالمحاصيل النقدية الرئيسية كالشاي والبن، خاصة وأن الجنوب تبلغ مساحته ثلاثة أضعاف مساحة يوغندا وتسكن فيه بعض القبائل التي تقيم في يوغندا كالآشوري والآنقي، وهي قبائل تمتلك ذات ثقافة زراعة البن والشاى، المنتشرة على الجانب الآخر من الحدود.
يجمع كثيرون على أن لكمبالا مصالح تجارية واقتصادية كبيرة في الجنوب، تمثلها شاحناتها التي تعبر الحدود محملة بالسلع والبضائع، ومواطنيها الذين أخذوا يتغلغلون في أسواق الجنوب ومفاصله التجارية، وحتى مواطناتها اللائي يعملن في فنادق جوبا وملاهيها مع الأثيوبيات والكينيات، ما يحمل على الإعتقاد بأن كمبالا لا يمكن لها أن تغلق هذه البوابة التجارية التي تتنفس بها إلا مرغمة، ويبدو انتشار المجاعة في شمال يوغندا بسبب الجفاف سببا قادراً على إرغام الحكومة اليوغندية على إيقاف شحنات الأغذية إلى الجنوب، وهو ذات الموقف الذي يعبر عنه المثل الشعبي..(الزاد لو ما كفى ناس البيت حرام على الجيران).
مجاهد بشير :الراي العام