القرضاوي متحدثًا عن ضوابط «الفقه المنشود»: كيف لمن لا يعرف الحياة ومشاكلها أن يفتي للناس؟
شدد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أن الإيمان باكتمال الدين وتمام الشريعة يعتبر ضابطًا رئيسيًا من ضوابط الوصول إلى «الفقه المنشود»، محذرا من أن أصحاب ما يسمى بالقراءات المعاصرة للقرآن أكثر خطرًا على الإسلام من القاديانية .. العلامة القرضاوي شدد كذلك على أنه لا يمكن لمن يعيش في صومعة أو برج عاجي أن يفتي الناس، فلابد للمفتي أن يعرف آلام وآمال وشرور الناس، معتبرًا المزاوجة بين معرفة الواجب ومعرفة الواقع من ضوابط الفقه المنشود .. ووضع القرضاوي، في الحلقة الثانية من برنامج «فقه الحياة» الذي يذاع يوميا طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية،(التردد12226 أفقي نايل سات ) ثمانية ضوابط لابد من الالتزام بها للوصول إلى «الفقه المنشود» القائم على فهم صحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية .. هذه الضوابط تشمل: الاعتماد على صحيح القرآن، وعلى السنة الصحيحة الصريحة، والإجماع المتيقن، والقياس الصحيح، والإيمان بعصمة الأمة، وكذلك باكتمال الدين وتمام الشريعة. كما أشار فضيلته إلى ضرورة التزام الفقيه بمنهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة، والمزاوجة بين الواقع والواجب.
………………………………………………………………………
** كيف السبيل إلى الفقه المنشود.. فضيلتكم وضعتم أنواعًا متعددة من الفقه، مثل فقه السنن والمقاصد والمآلات والموازنات والأولويات والاختلاف، بينما الناس ربما تحتاج إلى تعلم الفقه بمعناه الضيق، فكيف نصل إلى هذا الأمر إذا اتسعت الأمور وتشعبت؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد..
فقد كانت الحلقة الأولى حول الهدف من هذا الفقه، وماذا نريد به؛ لأن تحديد المفاهيم من أهم الأشياء، وكثير من المفاهيم تترك عامة ومائعة ورجراجة، ولا يعرف الناس المقصود منها، لذا أردنا أن نحدد مفهوم الفقه وشرحناه بهذه السعة، ووضحنا ما هو منهجنا في تقديم هذا الفقه وفي الوصول إليه، وهذا شيء مهم بالنسبة لما سنتناوله في هذه الحلقة.
** بمعنى أن فضيلتكم وضعت ضوابط للطريق إلى هذا الفقه المنشود؟
نعم، هذه الضوابط هي مكونات المنهج، الذي نعتمده في فهم هذا الفقه، وفي استنباطه واستمداده من مصادرنا، وتقديمه للمسلمين وحتى لغير المسلمين.
** ولعل هذه الضوابط هي التي تعصم الفقيه أو الإنسان من الوقوع في الزلل؟
نعم، فأول شيء في هذا الفقه، هو الاعتماد على محكمات القرآن، وأنا دائمًا أقول كلمة محكمات هذه؛ لأن بعض الناس لا يهتم بالمحكمات، ويركض – للأسف- وراء المتشابهات.
محكم أم متشابه؟
** القرآن يوصف أحيانًا بأنه كتاب محكم، ويوصف أحيانًا أخرى بأنه كتاب فيه المحكم وفيه المتشابه، مثلاً يقول الحق سبحانه وتعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) فالمفهوم هنا أن كل آيات القرآن محكمة، بينما تقول آية آل عمران المعروفة: (منه آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، فكيف نوفق بين هذا وذاك؟
نحن نريد بالمحكم ما يقابل المتشابه، فكل القرآن محكم، أي أحكمت آياته؛ لأنه متقن ومضبوط، ولا خلل فيه، ولا زيغ، ولا تناقض، وهذا معنى محكم. كما أن القرآن كله متشابه، بمعنى يشبه بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا.
إنما أنا أقصد فيما قلت محكمات أي في مقابل المتشابهات، والزائغون يتبعون ما تشابه منه،( ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) أما الراسخون في العلم فيردون المتشابهات إلى المحكمات، ودائمًا تجد الزائغين والمنحرفين، يبحثون عن المتشابه ويتمسكون به، وكل الفرق التي يعتبرها جمهور الأمة ضلت عن سواء الصراط، الذي أضلها هو الاعتماد على المتشابهات وترك المحكمات.
** مثل ماذا؟
كان بعضهم يقول إن القرآن حمال أوجه، بينما ليس القرآن كله حمال أوجه، ف «حمال الأوجه» هي المتشابهات، ولا ينبغي أن نعتمد عليها، ولو كان القرآن كله حمال أوجه، ما سماه الله «بينات»: (بَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فالقرآن كتاب مبين، فلا يمكن أن يوصف بأنه حمال أوجه، وبعض الناس يأخذ بعض الآيات ويكفر بها الناس، مثل: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ)، وممكن بعض الآيات تقول مثلاً إن المؤمنين هم الذين يفعلون كذا وكذا، فهل من لم يتصل بهذه الأفعال يكون كافرًا خارجًا من الملة أم يكون عاصيًا وناقص الإيمان؟!.
لا تستطيع أن تقول هذا إلا إذا أخذت القرآن كله، ورددت بعضه إلى بعض، وعندما تقول (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ) أي المؤمنون الكاملون الذين هم في صلاتهم خاشعون، ليس معنى هذا أنه من لم يخشع في صلاته كان كافرًا.
فمن المهم جدًّا لحسن فهم القرآن أن تأخذ القرآن كله بعضه مع بعض، مثلاً بعض الناس قالوا إن الخمر لم تحرم في القرآن.
** وما دليلهم؟
دليلهم على هذا أن القرآن قال في الخمر (فَاجْتَنِبُوهُ) (إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولم يقل إنه حرام، كأن كلمة اجتنبوه هذه كلمة هينة، ولو نظرنا في القرآن الكريم، نجده لا يقول لفظة «الاجتناب» هذه إلا في الشرك أو الكبائر، والفواحش الضخمة، فنجد القرآن يقول (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي الأصنام، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) .
فلابد لمعرفة معنى «اجتنب» أن تقرأ القرآن كله، فتفهم أن «اجتنب» تعني «جعل بينه وبين الشيء جانبًا»، أي بعد عنه وليس فقط لم يفعله، وكذلك أيهما أشد أن يقول (لاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى) أم أن يقول (لا تزنوا)، الأشد هي «لا تقربوا»؛ لأنه حتى الشيء الذي يؤدي للزنا من اللمس والقبلة والخلوة.. هذه الأشياء هي مقدمات الزنا منهي عنها. فأول شيء هو أننا لا بد أن نَحكم محكمات القرآن، لنفهم ما تشابه منه.
** بما أننا تحدثنا عن القرآن أو محكمات القرآن باعتباره هو الضابط الأول من ضوابط الفقه المنشود، فلعل الشيء الثاني هو اتباع السنة الصحيحة؟
نعم، اتباع السنة الصحيحة والصريحة أيضًا، ونحن نقول إنه يعتمد الحديث الصحيح في ثبوته، والصريح في دلالته، الاثنان معًا، فأما السنة غير الصحيحة فلا وزن لها، والعلماء متفقون على هذا في أحاديث الأحكام، وأحاديث الحلال والحرام، وإن كانوا تساهلوا في أحاديث الترغيب والترهيب والرقائق وفضائل الأعمال، وإن كنت أخالف هذا المنهج، وأرى أن الذي يعتمد هو الصحيح والحسن حتى في فضائل الأعمال.
وهناك سوء فهم في قضية «فضائل الأعمال»، فبعض الناس يظن أنه يُعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، بينما لم يقصد العلماء ذلك؛ إنما قصدهم هو فضل العمل، فمثلا في حديث فضل الصدق وذم الكذب، هذا الحديث لا يثبت حكمًا، ففضل الصدق وذم الكذب ثابت بالقرآن الكريم وبالأحاديث الصحيحة المستفيضة، إنما ربما جاء في أحاديث أن الكذاب له كذا وكذا من الأشياء، التي فيها شيء من المبالغات، وبعض الناس يقول: هذا الأحاديث تروى وإنما لا يعمل بها.
وعلى كل حال الحديث الصحيح الصريح هو المبين للقرآن الكريم، ولابد من السنة بجوار القرآن، وإذا كان بعض الناس يقول: لا.. يكفينا القرآن، فالله تعالى يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) ولسنا في حاجة إلى السنة. هذا تكذيب للقرآن نفسه؛ لأن القرآن الذي أمر بطاعة الله هو الذي أمر بطاعة رسوله، قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (ومَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).
فلا يمكن أن نكتفي بالقرآن عن السنة؛ لأن الرسول هو المبين، فكيف نستغني عن بيان من كلفه الله ببيان القرآن؟
زمن الروبيضة
** لعلنا إن شاء الله نتحدث بالتفصيل في حلقة قادمة عن كيف نفهم القرآن وكيف نتعامل مع السنة المباركة، ولكن أود أن ندخل سريعًا في الضابط الثالث.
أريد أن أذكر شيئًا في السنة قبل أن نذهب إلى الضابط الثالث؛ لأن هناك للأسف أناسًا كثيرين يجترئون على السنة، ويظنون أنه اختلط فيها الحابل بالنابل، وكأن الأمة لم تفرغ لها رجالاً، وأئمة كبارًا في كل الأقطار والأعصار خدموا هذه السنن، وكانت رحلاتهم مضرب الأمثال في العالم.
فالسنة خدمت وفرزت، وقيل للإمام عبد الله بن مبارك: هذه الأحاديث الموضوعة، أي المكذوبة، على رسول الله، قال تعيش لها الجهابذة، فهناك رجال سينخلونها نخلاً. ونجد للأسف في عصرنا أناسًا تكذب الأحاديث بأدنى شيء، حتى أن هناك من كذب حديث «بني الإسلام على خمس»، هل رأيت أشهر من هذا الحديث؟ حديث متفق عليه، ورواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عمر، ورواه الإمام أحمد من حديث جرير بن عبد الله، والأمة كلها تحفظ هذا الحديث، ولكن عندما قامت ثورة يوليو كان هناك أحد قادة الثورة يخطب، ويقول: حديث بني الإسلام على خمس حديث مكذوب؛ لأنه لا يذكر الجهاد.
** عفوًا فضيلة الشيخ من الذي أدخل قادة الثورة في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
المشكل أن هذه الأشياء تصدر من غير أهلها، وفي غير محلها، فهناك من كتب في مجلة «العربي» ورددت عليه من قديم، ينكر حديثًا من أحاديث البخاري، وهو أن السيدة عائشة قالت إن النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، أي تلبس الإزار ويباشرها، وقال هذا في البخاري لكنه مكذوب، لأنه عارض القرآن في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) فهو فسر الاعتزال بأنه الاعتزال البعدي تمامًا عن الحائض كاليهود.
مع أن عائشة هي التي فسرت فعل الرسول، فهو الاعتزال بمعنى الامتناع عن الجماع، وليس أن الرجل يمتنع عن الاستمتاع بامرأته بغير الجماع، وهكذا رأينا كثيرين يجترئون على السنة بإنكار الأحاديث الصحيحة، فهناك من يقول إنها مخالفة للقرآن، أو من يقول إنها مخالفة للعقل، وأحدهما أنكر أحاديث: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، فيختبئ اليهود وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا عبد الله أو يا مسلم هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله» قال هذا غير معقول.
يا أخي غير معقول كيف، أولاً الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينطق الحجارة، ثم أنه يمكن تأويل الحديث إلى أن الكلام بلسان الحال وليس بلسان من قال، وليس ضروريًا أن ينطق الحجر، ولكن معناه أن كل شيء يدل على اليهود، وحينما يأتي النصر يكون كل شيء معك.
** لكن فضيلة الشيخ ألا ترون أن الحديث عن هذه النوعية من الناس، يعطيها قيمة، وهم في الأصل ليسوا من أهل الاجتهاد، ولا من أهل الحديث، ولا من أهل القرآن؟
للأسف هم كذلك، ولكننا في زمن أصبح لمثل هؤلاء مكان، وبعضهم تفتح له الفضائيات، ويراه الناس صباحًا ومساءً، وقد جاء في بعض الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علامات الساعة، أنه قبل الساعة هناك سنون خداعة يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيه الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيه الروبيضة، قالوا ما الروبيضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، فنحن في سنين الروبيضات هذه.
الإجماع والقياس
** ننتقل فضيلة الشيخ إلى الضابط الثالث بعد القرآن والسنة؟
الضابط الثالث هو الإجماع المتيقن، وأنا أقصد بأن هناك إجماعات كثيرة تدعى ولكنها غير متيقنة، وإذا بحثت في الأمر وجدت فيه خلافًا، وإذا لم يكن هناك إجماع متيقن، فمن حق أهل الاجتهاد أن يجتهدوا، وقد وجدنا لكثير من الأئمة آراء انفردوا بها، والإمام أحمد انفرد بآراء عن المذاهب الأربعة، وعرفت باسم المفردات، لكن حينما يوجد إجماع على أمر ما، يدل ذلك على أن هذا الأمر لا يجوز أن يتجاوز.
** لعل الضابط الرابع هو القياس الصحيح؟
نعم القياس الصحيح، ومعنى القياس الصحيح أن يكون هناك حكم أصلي، وحكم فرعي مبني على هذا لعلة مشتركة بينهما، بمعنى إذا قال القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ) يا ترى البيع ممنوع والشراء جائز؟، فالبيع يلزمه الشراء، كذلك الإيجارة، بمعنى هل يجوز أن تنشغل عن الجمعة بعقد إيجار، هذا نقيسه على ذلك.
كذلك قال الله تعالى (الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) فهل هذا خاص بالنساء أم الرجال يقاسون على النساء؟. إذا كان القياس واضحًا، أي العلة واضحة، وليس هناك فارق بين المقيس والمقيس عليه؛ لأن هذا شيء مهم، فنحن أحيانا نقول قياس مع الفارق، وإذا قلنا مع الفارق بطل الأمر، ومباحث القياس مباحث مستفيضة في كتب الأصول، ونحن نشير هنا إلى إشارات ولا نتوسع، وإنما نرد على الظاهرية الذي ينكرون القياس.
أخطر من القاديانية
** فضيلة الشيخ أنتم تقولون بأن الإيمان باكتمال الدين وتمام الشريعة يعتبر ضابطًا من الضوابط التي تجعل الإنسان يصل إلى هذا الفقه المنشود، ماذا تعنون باكتمال الدين وتمام الشريعة؟
أنا أرى أن الله سبحانه وتعالى قد امتن على هذه الأمة فقال في سورة المائدة ونزل ذلك في حجة الوداع: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)، وأحد اليهود قال لسيدنا عمر: لو نزلت هذه الآية علينا لجعلنا يوم نزولها عيدًا، قال عمر: والله أنا أعلم متى نزلت، نزلت في يوم عرفات، وهو يوم عيد للمسلمين مستمر إلى يوم القيامة.
(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) آية عظيمة وللأسف الشديد، إنه مع امتنان الله تعالى علينا، بإكمال الدين لنا وإتمام النعمة علينا، نجد في عصرنا بعض الناس يريدون أن يقولوا إن الدين لم يكتمل، وأن الشريعة لم تتم، ويريدون أن يتمموا الدين ويكملوا الشريعة باجتهادات فجة من عندهم؛ يريدون أن يحلوا الحرام، وأن يحرموا الحلال وأن يسقطوا الفرائض وأن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله.
يريدون أن يعيدوا تفسير أو قراءة القرآن، يقرأون القرآن قراءة يسمونها «قراءة معاصرة» لا تبالي بما بين الرسول من أحاديث ولا بما جاء عن الصحابة من تفاسير، ولا بما جاء عن التابعين، ولا عن مفسري الأمة طوال العصور. يريدون أن يكون لهم فهم جديد، أي دين جديد وهذه مشكلة كبرى؛ لأن الكامل لا يقبل الزيادة ولا النقص.
وهؤلاء يريدون أن يحدثوا للناس دينًا جديدًا بواجبات جديدة وبفرائض جديدة، بحلال جديد وحرام جديد، ومفاهيم جديدة وقيم جديدة، كأنهم أصبحوا نبوة بعد محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ نبوة جديدة، وهؤلاء أخطر من القاديانيين، لأن القاديانيين جددوا في أمر أو أمرين، وهؤلاء يريدون أن يجددوا الدين كله، ووصلوا إلى أشياء في منتهى الغرابة.
** هل هذا هو الذي دعا فقهاءنا أن يقولوا: من استحسن فقد شرع، ومن شرع فقد زعم أن محمدًا قد خان؟
نعم؛ لأن المراد بالاستحسان هنا الاستحسان بالعقل المطلق دون تقيد بالأصول، فهذا الاستحسان الناشئ عن الهوى والرأي المحض، مرفوض من غير شك، فهؤلاء أشر من مجرد الاستسحان؛ لأن الذين يستحسنون يستحسنون في فروع بسيطة، يعني أحكام فرعية يريد أن يلحقها بأحكام أخرى، بينما هؤلاء يريدون الدين كله قابلًا للتبديل والتحويل: العقائد، الشرائع، الأخلاقيات، القيم، العبادات، السلوكيات، المحرمات، وهذا خطر شديد على الدين.
** فضيلة الشيخ من المعروف عنكم أنكم تتبنون عادة أو مطلقًا منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وجعلت ذلك ضابطًا من ضوابط الوصول إلى الفقه المنشود، فما معنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة؟
هذا أخذته من المنهج النبوي، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرشدنا إلى ذلك حينما قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، والتيسير في الفتوى والأحكام للناس، يعني أن نفتيهم بالرخص إذا احتاجوا إلى الرخص، فـ «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى محارمه»، ولابد أن يكون هناك نص صحيح صريح حتى نثبت المحرم وإلا فالأصل في الأشياء الإباحة، ولا نشرع في الدين ما لم يأذن به الله حتى نكثر على الناس الواجبات.
ومن ينظر إلى الإسلام يجد أنه حريص على تقليل التكاليف، وفي هذا نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) والإمام محمد رشيد رضا جعل هذه الآية أساسًا لكتابه «يسر الإسلام»، فالإسلام يضيق في الأسئلة؛ لأنه كلما أكثرت في السؤال شددت على نفسك، كما فعل بنو إسرائيل، حيث كان من الممكن لما قيل لهم اذبحوا بقرة، أن يذهبوا إلى أي بقرة ويذبحوها، ولكنهم ظلوا يسألون ويسألون، وشددوا فشدد الله عليهم.
التيسير لا التلفيق
** عادة ما تستشهدون ويستشهد كذلك كل دعاة التيسير بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو بوصف عائشة للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، هل هذا الحديث يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
أولاً نحن لا نريد بالتيسير اختيار الأسهل في كل شيء، وبعض الناس يقول لك نبحث في كتب الفقه وأسهل رأي نأخذه. أنا لا أريد هذا؛ إنما نأخذ الأسهل إذا كان معه دليل، فهناك ناس يقولون هناك رأيان: أحدهما أحوط والآخر أيسر، الميسر يأخذ بالأيسر والمشدد يأخذ بالأحوط، وفي المقابل بعض الناس يقول لك ليس هناك أحوط وإنما هو الدليل، وهذا غير صحيح فهناك اتجاهات، وقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك ألف كتابًا تجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، معنى ذلك أن هناك اتجاها إلى التشديد وآخر إلى التيسير، وهذه طبيعة البشر.
نحن أولى بأن نيسر ولا نعسر، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أقرب الناس إلى التيسير، وأكثر الناس تيسيرًا على أصحابه، فأنا إذا وجدت أحوط وأيسر، أفتي عموم الناس بالأيسر، ممكن أفتى بعض الناس بالأحوط، كشباب نريد أن نربيهم على العزائم، وإنما عموم الناس نختار لهم الأيسر، خصوصًا من يستفتون الآن في الفضائيات من مختلف أنحاء العالم، وهناك المسلمون الجدد، والتائبون الجدد، وضعاف العزائم، كل هؤلاء لو شددت عليهم يتركون الأمر، ولذا فمن الأولى أن تختار الأيسر، والذي يدل على هذا هو الحديث: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما» وأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ غضب على من يشدد من الصحابة، وقال: «أفتان أنت يا معاذ أفتان أنت يا معاذ»؛ لأنه يطيل بالناس الصلاة، ولما شكى إليه أن أبي بن كعب يطيل بالناس الصلاة، حتى بعضهم يخرج منها، قال إن منكم منفرين، وغضب غضبًا لم يغضب مثله، وقال: من أم بالناس فليخفف أو فليتجوز فإن وراءكم الكبير والضعيف وذا الحاجة.
** هل ترون أن اختيار الأيسر والأسهل من كل مذهبٍ من المذاهب يدخل في باب التيسير، أم أنه كما يسميه العلماء من باب التلفيق.
التلفيق هو أخذ الأمر بغير دليله، أي أنه من غير دليل يبحث عن الأسهل ويجمعه على بعض، وهذا اتباع للهوى، وإنما أنا أتبع هذا لأنه قام الدليل عندي على أنه صحيح، فإذا قام الدليل على هذا، فلا يدخل في التلفيق في شيء، وعملنا في الفقه كله بهذه الطريقة، فلا نأخذ المذاهب أو الآراء تقليدًا، إنما نأخذها بالدليل يرجحها.
أمة لا تجتمع على ضلالة
** أنتم تقولون بأنه لا بد للوصول إلى هذا الفقه المنشود، أن نؤمن بعصمة الأمة، ما المقصود بالأمة؟ وما المقصود بعصمتها؟
إذا ذكرت الأمة في المجال الإسلامي، فالمقصود بها أمة الإسلام، أمة الإجابة، أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، أمة القبلة، هذه الأمة بكل فرقها ينبغي أن يحترم ما أجمعت عليه، وهذا يدخل في باب الإجماع المتيقن، والأمة معصومة في مجموعها، بينما لا يوجد إمام معصوم عندنا أهل السنة، إخوانا الشيعة عندهم الأئمة المعصومون، لكننا ليس عندنا أحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم، لا الخلفاء الأربعة ولا كبار الصحابة ولا أمهات المؤمنين، ولا أحد إلا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وحده الذي قال الله فيه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) إنما المعصوم هو مجموع الأمة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة» وقد جاء الحديث من طرق يقوي بعضها بعضًا، وهذا أمر مجمع عليه.
الأمة في مجموعة معصومة، ولا يمكن أن تخرج الأمة كلها على الإسلام، ولا بد أن يظل في هذه الأمة من يقول الحق، كما قال الله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وكما قال سيدنا علي: «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة»، وما جاء في الحديث «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».
وكما جاء في أحاديث مستفيضة، عن عدد من الصحابة عن الطائفة التي يسميها العلماء الطائفة المنصورة، وهي التي تقوم على الحق، «لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون أو هم على ذلك»، فلا يمكن أن تجتمع الأمة على ضلالة.
فهؤلاء الذين يريدون أن يخرجوا على الأمة هؤلاء مرفضون، وهذا ضابط مهم، وخصوصًا الأمة في قرونها الأولى؛ لأن خير قرون هذه الأمة كما جاء في أحاديث مستفيضة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم القرن الأول «قرن الرسول» ثم قرن الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، هذه القرون الثلاثة هي خير قرون هذه الأمة، فإذا أجمعت على أمر لا يجوز لأحد أن يدعي أن الأمة هذه لا تعرف شيئًا، ويقوم بتفسير القرآن تفسيرًا جديدًا، لا يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا ابن مسعود، ولا ابن عباس، ولا مجاهد، ولا قتادة، ولا الطبري، ولا القرطبي، ولا ابن كثير، هذا جنون، كيف يريد أن يصنع أمة أخرى بدين آخر.
** خصوصًا وأن هذه القرون الثلاثة التي ذكرتم فضيلة الشيخ هي التي حملت إلينا هذا الدين، ولولاها ما وصل الدين إلينا.
نعم، هم الذين حملوا إلينا القرآن، من أين أخذنا القرآن من هؤلاء، بالحرف، بالغنة، بالمادة، وأخذنا عنهم السنن هم الذين رووا لنا السنن القولية والسنن العملية، فنحن نصلي كما يصلون، وأخذنا عنهم الحج، «خذوا عني مناسككم» وأخذنا عنهم الصيام، والسنن العملية المتواترة، والسنن القولية، والسنن التقريرية كلها أخذناها عن هؤلاء.
** هناك بعض الفقهاء في منهجهم لا يزاوجون بين الواقع وبين الواجب، ولكنكم تؤكدون على ذلك، وتقولون بأن الفقه المنشود لا بد أن تتم فيه المزاوجة بين الواجب وبين الواقع، أي واجب تقصدون وأي واقع تريدون؟
هناك أناس يعيشون في الكتب وحدها وبين الأوراق؛ يعيش في صومعته، ولا يعرف ماذا يحدث في الحياة، فهؤلاء لا يمكن أن يكون حكمهم صحيحًا، لكي يكون الحكم صحيحًا لا بد أن تعرف الحياة وما يجري فيها؛ ولذلك سمينا البرنامج «فقه الحياة»، كيف تفقه الحياة وأنت عايش في برج عاجي أعلى من الناس، أو في صومعة منعزلة عن الخلق.
الكتب وحدها لا تكفي، لا بد أن تعرف الواقع كما هو بلا تهوين ولا تهويل، لأن فيه أناسًا يحاولون أن يهولوا من الواقع ويضخموا فيه، وأناسًا آخرين يهونون الشيء الخطير، ونحن منهج وسطي في كل شيء، ننظر إلى الأمور كما هي، ونحكم عليها بما تستحقه.
فذلك البعد عن الواقع يجعل حكم الإنسان غير صائب، وهو ما نبه إليه العلماء، فالإمام أحمد قال: المفتي لا بد له من معرفة الناس، ومعرفة الناس تعني معرفة الواقع بما فيه، وأنا اشترطت في المجتهد الذي يجتهد أن يعرف الناس ويعرف مشاكل الحياة والثقافة.
ومن لا يعرف أي شيء عن الثقافة الإنسانية، ولا يعرف علم النفس ولا علم الاجتماع، ولا يعرف ما تجري به الحياة، ولا يقرأ الجرائد، كيف يفتي الناس، لابد للمفتي أن يعرف آلام وآمال وشرور الناس، حتى يستطيع أن يتوقاها، والواجب ما أوجبه الدين من تكاليف، والتكاليف بأوامرها ونواهيها والواقع ما يعيشه الناس، فلا يعيش فيما هو واجب وينسى ما هو واقع، ولا يعيش في الواقع ولا يفهم الواجب.
صحيفة الراي العام