صلاح الدين عووضة

ذات الصليب ..!!

[JUSTIFY]
ذات الصليب ..!!

٭ زميل صبانا «وهبة» كان يعشق قبطيةً في زمان مضى بتلك البلدة المتبتلة في محراب النيل حيث ترسو الجواري في البحر كالأعلام..
٭ كان حبا من طرف واحد بما انه كان يكتفي بنظرات والهة يصوبها نحوها حين تلج الكنيسة ـ أيام الآحاد ـ وحين تخرج منها..
٭ وحب فتانا هذا لـ «ماجدة» ما كان ليعنينا في شيء لو انه تركنا في حالنا ولم يزج بنا في عشق لا ناقة لنا فيه ولا جمل..
٭ فهو كان يلح علينا بسماجة ان نرافقه الى الكنيسة صباح كل أحد، ثم نبقى لدى بابها حتى تنسرب متهاديةً فتاته نحو عربة أهلها «الجيب» القابعة بالخارج..
٭ نعم؛ فقد كانت تتهادى في مشيها حين تخرج من الكنيسة دون أن نعلم نحن إن كان التهادي ذاك بسبب رضا عن واجباتٍ دينية أدتها بالداخل، أم رضا عن حاجياتٍ غرامية يؤديها تجاهها عاشقنا الولهان بالخارج..
٭ ومرت «آحاد» على الحال هذا حتى بلغ الهيام الوهبوي من العمر حولاً..
٭ ورغم أن ماجدة وهبة لم تكن أكثر جمالاً من ماجدة الأخرى (القبطية) التي كان أهلها جيراناً لنا إلا أنها كانت تبدو أشد فتنةً وأنوثةً ودلالاً منها ..
*وماجدة الأخرى هذه كان أهلها متداخلين مع الجيران ـ من المسلمين ـ تداخلاً تظن معه أنهم قد أضحوا على دين الإسلام..
٭ والجيران المسلمون هؤلاء كانوا متداخلين كذلك مع أهل ماجدة تداخلاً تظن معه أنهم قد أضحوا على دين المسيحية..
٭ ففي عصارى رمضان ـ مثلاً ـ كان والد ماجدة يُخرج فرشه وإفطاره إلى حيث مكان الإفطار الجماعي بالحي..
٭ وفي أعياد مولد المسيح كان أهل الحي يتدافعون نحو منزل أهل ماجدة محملين بالهدايا والأطعمة..
٭ وحين كانت تبصرنا ماجدة هذه بجوار الكنيسة صباح كل أحد كانت تغمر وجهها الطفولي أمارات الدهشة دون أن تفصح يوماً عما كان يعتمل في دواخلها في اللحظات تلك..
٭ ربما ظنت أننا نود حضور القداس ويحول بيننا وبين ذلك حائل تعلمه..
٭ أو ربما ظنت أن الفضول هو حادينا ـ غدواً ورواحاً ـ صباحات كل أحد..
٭ أو لعلها ظنت أكثر من ذلك مما نحن منه بُرآء إلا واحداً منا يستحق أن نقول فيه «الله يجازي اللي كان السبب»..
٭ ومن بين غيوم السنوات التي تراكمت على الذاكرة ألمح وقائع متفرقة قد تعين على فهم ما حدث لصديقنا وهبة بعد ذلك..
٭ فها نحن نصعد يوماً الدرج المؤدي إلى الدهليز الرئيسي للكنيسة الحجرية العتيقة رضوخاً لرغبة لدى وهبة مشفوعة بالدموع..
٭ فقد أراد يوماً ـ خلاف أيام القداس ـ أن يستنشق عبق المكان الذي «يحتوي» معشوقته كل أحد حسب قوله..
٭ وأن يتنسم أريجها الذي يتماهى مع ذلك العبق..
٭ وأن يستشعر وجودها في قاعة القداس ذات المقاعد الخشبية..
٭ ثم ها نحن نسير بحذر بين أبواب مغلقة صغيرة على جانبي الدهليز والصمت المطبق له «طنين» في الآذان..
٭ ويفضي الدهليز إلى بهو واسع «بارد» نستشعر إزاءه رهبة تكاد تدفعنا إلى التراجع..
٭ وصرير «مرعب» يُفجِّر سكون المكان لتلفظ العتمة أمامنا قسيساً شاباً وضيء الوجه تسبقه نحونا إبتسامة ودودة..
٭ وبعد قليل أخذ ورد يفصح كاتب هذه السطور عن أسباب الزيارة..
٭ وعن أسباب زيارات أيام القداس من كل أسبوع..
٭ ويكاد عاشق ماجدة أن يقع مغشياً عليه، أو لعله فعل..
٭ ثم أُبصرُ القسيس الشاب وهو يقود وهبة بحنوٍّ نحو الباب ذي الصرير..
٭ وبعد نحو «عام» يخرج إلينا صاحبنا وحده وابتسامة نعجز عن فهم كنهها تكسو وجهه..
٭ ويزداد هنا ضباب السنوات كثافة على الذاكرة..
٭ كل الذي أذكره الآن أننا لم نعد نذهب إلى الكنيسة العتيقة صباح كل أحد منذ اليوم ذاك..
٭ ولم أر ـ أنا شخصياً ـ ماجدة مرة أخرى إلا أمسية حفل زفاف ماجدة جارتنا..

٭ كان ذلك بعد سنوات عديدة من يوم اقتحامنا الكنيسة..
٭ وطوال السنوات هذه لم أعد أدري ما حل بوهبة بعد أن نُقل والده إلى مدينة أخرى لا تدوي في أرجائها صافرات من جهة النيل..
٭ ولكن بالأمس – وهذا هو سبب كلمتنا هذه 0 صادفت رفيقاً من رفاق صبا تلكم الأيام ليخبرني أن وهبة، وزوجه ماجدة، وأبناءهما قدموا للاستقرار في الوطن بعد طول تغرُّب..
٭ وتعمدت ألا أسأل محدثي عمن تكون ماجدة هذي حتى أفسح للخيال مجالاً لاختيار تتمة جميلة لقصة جميلة..
٭ فالواقع حين يكون جميلاً لا يجب أن نضن عليه بخيال يناسبه جمالاً..
٭ واقع التعايش الديني في السودان قياساً إلى ما نرى من حولنا..
٭ ودوت في الذاكرة رنّة ناقوس لها صليل..
٭ وأعقبتها صافرةٌ ذات (ارتواء) .

(أرشيف)
[/JUSTIFY]

بالمنطق – صلاح الدين عووضة
صحيفة الصيحة