تلك الرائحة
في مجموعته القصصية الموسومة بـ (تلك الرائحة)، نقرأ لـ (صُنع الله إبراهيم) ما تيسّر من: “عندما انتصف النهار، وأصبح الحر أكبر من قدرته على الاحتمال. حمل الجد كرسيه العتيق. اجتاز غرفة الصالون، واتجه نحو الحديقة الخلفية. هناك أسند الكرسي على الجدار، وكعادته في مثل هذا الوقت من أيام الصيف، أغمض عينيه وكان على وشك أن يغفو، عندما داهمته تلك الرائحة”.
يقول أحد الساخطين ساخراً: نهار الخرطوم هذه الأيام قائظ، حد انسلاخ الجلد، والأرصاد الجويِّة تُعلن عن درجات حرارة لا يعترف بها أحداً غيرها، فهنيئاً لها، ثم يسحب الرجل (الساخط) كرسياً قديماً ليسنده على جدار بيته المتهالك لعله يغفو قليلاً، لكن الجدار ينهار على رأسه فيحطمه، ولا أحد يشعر به.
كان يسكن وحيداً في هامش العاصمة، وفي اليوم التالي، يوسوس جاره إلى جارة الآخر، بأن ثمة رائحة صادرة من منزل الرجل، وأنه لم يشهد المسجد منذ صلاة الفجر ليوم أمس، فيخطفان أقدامهما الواهنة، يطرقان على الباب، لا أحد يجيب، يستدعيان مفرزة من الصبيّة، ينخلع الباب الحديدي في ثوانٍ، والمشهد كان مروّع.
كل شيء في الخرطوم الآن برائحة جثة تحت كوم طوب أخضر، ذات الرائحة التي فاحت من جائزة الرواية العربية للعام 2003م، أيام (حسني مبارك)، فرفض (صنع الله إبراهيم) استلامها.
الآن، وهنا، (يُركِّب) المواطنون على وجهوهم أُنوفاً كأنفِ (صُنع الله)، فيشمون بوضوح تلك الرائحة النتنة، رائحة الفساد العطنة والمُتفسخة، هذه الأنوف (الصُنعليِّة) ذات الحساسية العالية، جعلت طائفة الفاسدين وحُماتهم يرتجفون، وترتعد فرائصهم، إذ ظنوا أن (البلد) فقد حاسة شمه منذ عقدين ونيف.
لكن هيهات لهم، لقد صار الناس يقرأون الصحف بأنوفهم، فلا تجدي معهم الحيل البصرية التي دأب (حُواة الكتابة) (وحماة الفساد)، على استخدامها لصرف الأنظار عن مراكز الفساد الراسخة، ولأنهم ظلّوا يخفون (الصورة) تارة، أو يطمسون معالمها تارة أخرى، أو يجملونها مرة ثالثة، فإن هذه الحيلة البارعة لم تعد ممكنة الآن، لقد تعفنت (الجثة)، وها هي الرائحة تفوح، فلا يحاول أحد في هذه – اللحظة الراهنة – أن يسحب كُرسيِّه ويسنده على ذاك الجدار القديم المتهالك ليغفو قليلاً، فينهار كل شيء ويتحطم على رأسه.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي