مسؤولية الدولة الأخلاقية
< محاربة الفساد والهمة العالية في كشف كثير من جوانبه ورأس السوط الذي لحق بعض المسؤولين، بالرغم من أنه يبشر بخير، إلا أنه في ذات الوقت يبعث غماً وحزناً لا يوصف، كون البلاد كانت ترزح تحت هذا الكم الهائل من الفساد الذي تدثر وتغطى بثياب رسمية، وهو في ذات الوقت يعبر عن حالة سقوط أخلاقي كبير لمنظومة الأفكار والشعارات التي كانت ترفع على مدى سنوات طويلة، وكان البعض يحاول دفن رأسه تحت رمالها أو حلف اليمين المغلظ أنها مجرد ترهات تلوكها ألسنة حاقدة وأفواه معارضة. < فقبل الحديث عن الفساد، لا بد من الحديث عن حالة الفوضى العارمة التي ضربت الدولة وعصبت أعينها عن رؤية مواطن الخلل والإفساد على مدى سنوات، فإما أن تكون السلطة القائمة مستغفلة وغافلة عما يجري، أو أنها سمعت وعرفت وتلمست ثم تجاهلت، حتى فات الكلام أذنيها الطويلتين، وتسمرت وعجزت عن فعل شيء وتركت الحبل على الغارب حتى حاصرها الفساد من كل جانب، وجرت جرثومة الفساد في دمها.. وهذه حالة أكثر بشاعةً من كشف الفساد نفسه ومحاسبة الضعيف وترك القوي. < ومن الخطل الظن أن ملفات الفساد يمكن علاجها بهذه السهولة، فالمرض وصل النخاع وخلايا العظم.. فلا يفيد معه تل بعض كباش الفداء تمهيداً لذبحها، فالخلايا السرطانية باقية مهما استؤصل وبتر عدد من الأجزاء والأعضاء الفاسدة، فقد فقدت كثير من مؤسسات الحكم مناعتها ضد التغول على المال العام والتمدد الأفقي والرأسي لعمليات الفساد المالي والإداري.. والسبب في ذلك أنه لم تتوفر على الإطلاق في أي وقت من الأوقات إرادة جادة وفاعلة وعملية لمحاربة الفساد، وكانت كل الاتهامات التي تُثار من أدوات الرأي العام والتنبيهات والتحذيرات حول تنامي الفاسد وأنه نشب أنيابه وأظافره في لحم الدولة وشرب من دم الشعب المغلوب، كان اكليشه الإجابة الجاهزة يقول «هاتوا الدليل إن كان عندكم»!! وكأن الفساد في عصرنا هذا صار يخلف وراءه أثراً ودليلاً وشاهداً.. لقد تطور الفساد إلى درجة أنه يجول ويصول كشبح تصعب رؤيته، لكن نتائجه واضحة وظاهرة وتجلياته معلومة!! < فكيف يمكن أن نصدق أن مسؤولاً حكومياً أو دستورياً، جاء من الفراغ والعدم ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً، نجده بعد سنوات قليلة يتطاول مع المتطاولين في البنيان ويملك القصور والدثور في أحياء الخرطوم الراقية، ثم لا نغمض عيناً ونفتحها حتى نجد أبناء المسؤول الفلاني وأسرته يحتكرون السوق ويمارسون التجارة ويحصلون على التسهيلات المصرفية، وتلغى لهم كثير من الإجراءات الرسمية ويدلفون إلى مكاتب الحكومة من أجل الإعفاءات ويتوسطون للوسطاء والسماسرة ويتاجرون في العملات الأجنبية، ويشاركون الشركات القادمة من وراء الحدود والمستثمرين الوافدين. < ودعك من الدستوريين والوزراء الولائيين الذين لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فقد طاروا بأجنحة المال الحرام في الآفاق البعيدة وأسسوا الشركات وحصلوا على معاملات وعطاءات من الباطن وتاجروا في كل شيء، دون أن تسأل الدولة أحداً من أين لك هذا؟! فكيف هو الحال مع موظفين كبروا أم صغروا، وتحت سمع وبصر الحكومة تظهر عليهم علامات الفساد ويلوك المجتمع الذي لا يخطئ سيرتهم في تقييماته ومعلوماته في غالب الأحيان، ولا يطرف جفن للحكومة السنية في الأخذ بأيدهم محاسبتهم!! < مئات الملفات الكبيرة لم تفتح بعد، وأرتال من القضايا واستغلال النفوذ موجودة، ولم يبق إلا بصيص أمل ضئيل للغاية تحفه شكوك بأن قدرة الدولة على فعل شيء حيال الفساد والمفسدين أمام اختبار حقيقي قد لا تستطيع اجتيازه، لأن الحرب على الفساد تحتاج لإرادة جبارة وأجهزة قوية ونزيهة وتشريع صارم وقدرة على تطبيق القانون ومحاكم ناجزة وعدالة حازمة. < وفي نهاية الأمر فإن هذا من صميم المسؤولية الأخلاقية للدولة، إن فعلتها نجت ونجونا، وإن تقاعست وتراجعت وعبست وبسرت، ضاعت وضعنا!! [/JUSTIFY][/SIZE]أما قبل - الصادق الرزيقي صحيفة الإنتباهة