تكريم الكناتين والطواحين
لديّ موقف مبدئي، ظللتُ أقبِضْ عليه، قبضة رُفَضَة (أي لا أدعه ولا أبرحه) شِبرا، وهو أن ما ظلّ ينتظم المشهد الإبداعي بضروبة كافة، من حفلاتِ تكريمٍ لصحفيين ومُطربين وغيرهم، من قِبل مؤسساتٍ ذات أغراض ربحية، وليست لها علاقة بالمساقاتِ الإبداعية (لا من قريب أو بعيد)، هو محض استغلال (جهير) لهؤلاء في أغراض دعائية وترويجية تستهدف تحقيق مزيداً من الأرباح للمؤسسة المعنيّة.
من وجهة نظري فيما لو اختارت أن تبدو مُتطرفة أكثر فإن تلك (التكريمات) المنعقدة يوماً إثر يوم، تتوسل ذات أسلوب شركات الدعاية الكُبري التي تلجأ دونما (خشية) إلى ما هو أكثر إثارة من أجل تسويق منتجات عملائها، فلا توفر حتى جسد أنثوي (عارم) في إعلانات لسيارات أو مشروبات أو أحذية.
مع الاحتفاظ بالفروقات، فإن هذه التي لدينا، وبحكم أنها مقارنة بتلك، تبدو وكأنها (طواحين وكناتين)، إذ هي في أحسن الفروض مطاحن قمح، وفي أسوأها (مراكز تسويق)، وبالتالي (لا هذي ولا تلك) ذواتا وشائج وأمشاج بالفضاءات الإبداعية والثقافية حتى تدعي أنها تكرم (فلان وعلان) لوجه الله، وفرط تقديرها لما بذله من جهود من أجل (كذا وكذا).
على كلٍّ، لست بلائم أحداً هنا، ولكنني بصدد التأكيد على قيِّم ومبادئ، لا أكثر، لا أقل، ولأنني كذلك، ينبغي أن أشُير مباشرة إلى السبب الذي جعل (الكناتين والطواحين) تتسرب إلى المفاضاء الإبداعي، وتستغل ناشطيه وفاعليه العِظام في الدعاية لمُنتجاتها مُقابل بضع دُرهيمات وشهادات تقديرية، بينما تجني هي، جراء ذلك طائل الأرباح، وسمعة حسنة. فالسبب من وجهة نظري هو انسحاب الدولة (ممثلة في وزارة الثقافة) من فعاليات كهذه، وهذه حتى إن حضرت فـ (الخشب والدلاقين) كما هو متداول – هما الأكثر حضوراً في التكريم. وهذان لا يُسمنان ولا يغنيان من مسغبة. بل هما أقرب إلى المهزلة منها إلى تكريم حقيقي يليق بالمُحتفى بهم.
وبانسحاب الدولة، تركت (الساحة فاضية)، لكل من (لم يهب ولم يدب)، وتركت المبدعين لجَزَرَ السِّبَـاعِ يَنَشْنَـهم تناوشاً (يحنن). وفي ذلك نعضد ماذهبنا إليه، باستطلاعٍ للرأي العام في الصدد نفسه – نظمه (مركز كومون الإعلامي)، شارك فيه (52) ألف شخص، اعتبر 55 بالمائة منهم أن ما يجري فيه استغلال لرمزية المشاهير، وفيما قال (27) بالمائة أن التكريم مؤشر إيجابي، اعتبره (18) بالمائة تدافع اجتماعي لملء الفراغ في غياب الحكومة.
وختاماً، يحزنني أن تكرمني بقالة أو جزارة، ليس احتقاراً لهما، بل لأنني لست فاعلاً في بيع الجزر والكمونية، فأين رهطي، دور نشر، مراكز ثقافية، وزارة ثقافة وإعلام؟ لا يوجد أحد.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي