الشوارع تفيض ماء.. والاحياء تستغيث عطشاً …. الخرطوم .. بين الغرق والعطش
يبدو أن تكرار سيناريو خريف العام (1988) الذى تضررت منه ولايات عديدة بالبلاد خاصة ولاية الخرطوم، التى دمر بها ذلك الخريف الكثير من منازل المواطنين وترك العشرات من الأسر فى العراء تماماً ، فى طريقه الى التجدد مرة اخرى بالولاية من خلال خريف العام الحالى ، حيث استطاعت (3) أمطار فقط شهدتها الولاية حتى الآن آخرها ليلة أمس الأول من تدمير بعض المنازل بمدينة أمدرمان وقطع الطريق أمام المارة بالعديد من شوارع العاصمة المتفرقة ، فضلاً عن تسببها فى الإختناقات المرورية مما أدى إلى تعطيل المواطنين والموظفين من الذهاب الى مواقع عملهم فى الأوقات المحددة ،
ورغم محاولة الكثير من سائقى المركبات تفادى (الإزدحام ) عبر المداخل الضيقة للأحياء . ولم تنحصر الإشكالات التى تسببت فيها أمطار الخريف الحالى فى إعاقة الحركة فقط ، بل أن بعض مواطنين في أحياء ود(البشير ) (وأمبدات) بامدرمان ،أكدوا فى حديثهم لـ(الراي العام) أن إحدى الأمطار تسببت فى تدمير منازلهم المشيدة من المواد المحلية البدائية) فاضطروا الى السكن مع الجيران ، وذكر آخرون أن مياه أول أمطار الخريف لاتزال تتمركز حول منازلهم من الجهات كافة ، الامر الذى أدى الى توالد البعوض وبالتالى أصيب أطفالهم بالعديد من الأمراض (ملاريات ،واسهالات ) تم نقل بعض الحالات المزمنة منها الى مستشفى أمدرمان ، فضلاً عن أن الروائح الكريهة المنبعثة منها منعتهم من النوم ، وقالوا إنه بسبب البعوض والروائح النتنة للمياه حول منازلنا اصبحنا لانفرق بين الليل والنهار ، وذكر المواطنون انهم ظلوا قرابة الشهر يناشدون المسؤولين في غرفة طوارئ الخريف بالمحلية، إرسال تناكر لشفط المياه ، الا ان المسؤولين يتحججون بعدم وجود تناكر جاهزة لعمليات الشفط ، وينصحوننا بان الكميات الموجودة من المياه حول المنازل لاتحتاج الى تناكر شفط ، يمكن شفطها فى ساعات عبر جهد شعبى من خلال أهل الحى.
( الراي العام) قامت أمس بجولة ميدانية شملت بعض المناطق بمدينتى الخرطوم وامدرمان للتعرف على حجم معاناة المواطنين من جراء هطول الامطار الخفيفة التى شهدتها الولاية حتى الان . ورصدنا بعضاً من المشاهد لبعض الأماكن بالمدينتين .
مشهد أول
بدأ المشهد الأول من الخرطوم أمس وتحديدًا من منطقة استاد الخرطوم عقب هطول أمطار ثقيلة استمرت حتى صبيحة أمس حولت منطقة الاستاد خاصة الجهة الغربية منه الى (بركة) مياه يسبح فيها المارة والسيارات ، فوجدنا الجميع يحملون أحذيتهم في أيديهم وآخرون يضعونها فى (اكياس ) يحملونها على (الرأس) و منهم من (يكفكف) بنطاله وبعضهم يمسك بأسفل جلبابه خوفاً من الاتساخ ، لكن القاسم المشترك بينهم ( المجازفة) فى الممرات الضيقة للاستاد بحثا عن موضع يابس يضمن لهم (موطئ) قدم خالية من (لزوجة) الطين. وفى الاستاد نفسه حولت المياه المداخل المتعددة للوصول اليه الى مدخل واحد يعبره المواطنون والسيارات ، فاصبح المواطنون بين (نارين) بالمياه من خلال المرور عبر البركة بروائحها النتنة التى تزكم (الانوف) ،او المجازفة من خلال ممر ضيق بالقرب من حيطة آيلة للسقوط وبالتالى مواجهة المخاطر .
ولم تتوقف معاناة المواطنين بالاستاد على انتشار الروائح النتنة المنبعثة من تراكم المياه ،ولكن تحول الأمر الى إختلاط المياه بمياه الصرف الصحي من دورات المياه المتهالكة بالاستاد، لعدم وجود مصرف محدد لفصل مياه الصرف الصحى القذرة عن مياه الأمطار ، ويؤكد باعة للخضروات والفواكه بموقف الاستاد أن اختلاط مياه الصرف الصحى بمياه الأمطار ذات الروائح الكريهة، ادى الى اتلاف وتلوث الخضروات التى يفرشوها بالموقف ، مما أدى ذلك بدوره الى نفور المواطنين واحجامهم عن الشراء ، مما ترتب على ذلك تعرضهم لخسائر مادية ، بجانب قطع أرزاقهم
مشهد ثان
المشهد الثانى كان مسرحه مدينة امدرمان حيث تسببت الأمطار فى إغلاق العديد من الطرق والممرات الرئيسية بأحياء المدينة خاصة احياء أمبدة السبيل وودالبشير ، مما تسسب ذلك فى بروز الاختناقات المرورية وتعطيل حركة السير التى استمرت حتى منتصف نهار أمس ، ولاحظنا من خلال الجولة بحىٍ امبدة السبيل وجود بركة مياه ملاصقة لمدرسة عباد الرحمن الأساسية للبنات حالت دون وصول الطالبات للمدرسة ، ومشهد رجل كهل يكابد فى البركة بحماره الهزيل دهاليز البركة العميقة ، فضلاً عن وجود مصرف عميق بالقرب من المدرسة غير مهيأ لتصريف المياه ، وتكمن خطورة المصرف فى وجود أطفال يلعبون بالقرب منه.
ولاحظت الجولة عدم وجود اية معدات (تناكر وطلمبات) لشفط المياه من الطرقات الرئيسية والفرعية ، رغم تأكيدات الولاية المتكررة على استيرادها من الخارج لتناكر وطلمبات شفط جديدة لموا جهة فصل الخريف الحالى.
سوق الكلاكلة اللفة
على طرفي نقيض تقبع محلية جبل أولياء وسوق الكلاكلة اللفة الذي في الواقع يأتي مقابلاً تماماً للمحلية، قريب من حيث المسافة لكن بعيداً عن دائرة الاهتمام..
أولويات المحلية يبدو أنها تأخذ شكل الهرم المقلوب، اصحاب المحال والكفتريات وستات الشاي والزبائن الجميع يجأر بالشكوى ولا حياة لمن تنادي، ليس هناك أي صدى أو إهتمام من جانب المحلية.
إذا كان القائمون على أمر المحلية لم يسمعوا شكوى التجار والمواطنين فكيف لم يروا الأوساخ والمياه الراكدة القذرة تلطخ واجهة السوق وهو أقرب إليهم من مد ذراع.
الإستطلاع الذي أجرته «الرأي العام» مع التجار والمواطنين أوضح أن مشكلاتهم ليست بالأمر الجديد على المحلية لأنها تتكرر مع كل خريف وما يلبث الامر أن يزداد سوءاً كل عام، فالخريف الماضي صاحبته نفس تلك الأزمة التي قابلتها المحلية بالوعود البراقة ولكنها ما لبثت ان تنصلت عنها وإضطر أصحاب المحال لشراء الرمل على نفقتهم الخاصة حتى يستطيعوا متابعة أعمالهم وكسب رزقهم.
الجولة أوضحت لنا أن مشكلات السوق تختلف بين إنحدار بعض الشوارع نحو الداخل وإنخفاضها الشديد- مما يجعل دخول مياه الأمطار الى الداخل امراً بديهياً- وبين الأوساخ المترامية على مدخل وخلفية السوق حتى أن بعض الحاويات تعج بالروائح الكريهة والذباب، سؤال يفرضه الواقع أين تذهب تلك الرسوم التي يدفعها أصحاب المحلات وغيرهم شهرياً لتخليصهم من النفايات؟؟
تعليق بادرني به أحد التجار وهو أن المحلية إذا كانت حريصة على أمر النظافة كما هي حريصة على تحصيل الرسوم لكان الحال غير الحال.
السوق من الداخل ممراته لا تخلو من الحفر التي تتجمع بها المياه والأوساخ والحشرات.
بادرت بسؤال إحدى المواطنات من أهل المنطقة عن الإستعدادات التي قامت بها المحلية تجاه الخريف التي رصدتها أعين المواطنين فأوضحت ان الإستعدادات غير موجودة بالمرة، فالشوارع تمتليء بمياه الأمطار التي تتراكم وتزيد يوماً بعد يوم حيث لا توجد أي مصارف للتخلص من تلك المياه، والحفر في الشوارع الرئيسية والفرعية لم يتم ردمها أما الميادين فهي أشبه ببحيرات لا تستطيع العربات السير فيها فما بالك بالناس وأضافت أن المعاناة كبيرة وخاصة للأطفال وطلبة المدارس الذين منعتهم المياه بالشوارع من الذهاب إلى المدارس.
المشهد قرب السوق هو فوضى عارمة مع ضيق الممرات وإزدحام المشترين والباعة الجائلين الذين تجبرهم الأمطار على الدخول والخروج مراراً حتى لا تفسد البضائع، إذاً فليس من القريب أن يرتبط الخريف بتلك الصورة النمطية للفوضى والباعوض والأمراض.
أحد هؤلاء الباعة الجائلين قال إن إستعداد المحلية لفصل الخريف هي مجرد شعارات لم نر منها أي شيء على أرض الواقع فهو يضيف «أنحنا هنا غرقانين»..
«الرأي العام» وهي ترصد الخريف بالمحلية المشاكل والإستعدادات حيث قرر معظم المراقبين أنه سيكون أقوى من العام السابق، لم تر كبير إختلاف او ظاهر تغيير في «خور» منطقة الكلاكلة شرق الممتد بمياهه التي فقدت جميع خواص الماء من اللون والرائحة والذي يمتليء في بعض الاحيان حتى يفيض وهو يحتضن انواعاً من الباعوض هى الأشهر في السودان، فاذا كان لابد من هذا المصرف لمياه المستودعات فعلى الأقل ليكن بطريقة لا تخلق مشكلات لهؤلاء الذين يسكنون بالقرب منه ويكفيهم ما يستمتعوا به من حين لآخر من هواء مشبع برائحة غاز المستودعات.
الوجه الآخر للصورة تعيش فيه اجزاء واسعة من ولاية الخرطوم أزمة حادة بسبب انقطاع المياه لعدة أسابيع ومثلت مدينة امدرمان أحد نماذج الأزمة في احياء امدرمان وكرري وامبدة.
كانت مدينة حي الدوحة أكبر المناطق تضرراً حيث يقول الاهالي انهم يعانون من انقطاع المياه لاكثر من شهرين محجوب محمد ميرغني أحد مواطني حي الدوحة قال «للرأي العام» ان أزمة المياه في الحي اصبحت كارثة بمعني الكلمة حيث انعدام الامداد المائي تماماً واضاف «موية الصلاة» اصبحت مشكلة بالنسبة لنا والمنطقة عموماً بعيدة عن مناطق الابار الجوفية وهذا يرفع قيمة المياه المنقولة «بالكارو» هذا بالاضافة الى خطورتها صحياً حيث تزداد احتمالات التلوث للمياه المنقولة بالكارو.
في امبدة تختلف تفاصيل أزمة المياه فاهالي «وحدة السلام» يشكون من انقطاعها لاكثر من شهر. وقال آدم اسحق من وحدة السلام منذ اكثر من اسبوع «ماسورتنا ما جابت موية» واضاف آدم قبل سنوات عندما كنا نعتمد على المياه بدون شبكة كانت متوفرة بالكارو – لكن الان حتى بالكارو غير متوفرة وقال بسخرية – «اصبحنا نجمع موية المطرة» عشان نشرب موية ونحن في دولة بها أطول نهر في العالم، ويقول بركات سالم أنهم دائماً ما يسمعون في الراديو والجرايد عن وعود لحل مشكلة المياه ولا يحدث شيء ويتكرر نفس السيناريو في السنة التي تليها.
ويقول سلمان صالح من مواطني دار السلام اصبحنا نعيش في «صحراء» بسبب انقطاع المياه واضاف لا ادري اين هيئة مياه المدن والتي تجبي يوميا منا رسوم المياه وفي المقابل ليس هناك مياه وقال هذه معادلة عرجاء.
عجز جزئي
صرح المسؤولون بهيئة مياه ولاية الخرطوم عن حدوث عجز جزئي في الامداد بسبب تراكم الطمي في خلاطات محطة المقرن التي تعتمد عليها اجزاء كبيرة من العاصمة في الامداد المائي، وزادوا بأن كمية الطمي زادت في هذا الموسم وبلغت (44) ألف وحدة اي أكثر من (100%) في العام الماضي والذي بلغت فيه (20) الف وحدة بسبب قدوم موسم الدميرة الذي يكثر فيه الطمي- والغريب ان النيل في هذا الموسم لم يسجل منسوباً يذكر حتى هذا اليوم. وبالتالي ربما يكون الطمي المتراكم على الخلاطات من موسم الخريف العام الماضي.
وأكد المسؤولون بان الهيئة قامت بتطهير الخلاطات.
وعن ازمة منطقتي العرضة – الدوحة ذكر مسؤول لـ (الرأى العام) ان المشكلة الاساسية كانت في تعطل البئر التي تمدهم بالمياه لفترة طويلة وتمت صيانتها ولكن اعمال الصيانة التي طالت تشبيكات الخطوط الداخلية الجديدة بالشبكة ادت كذلك الى عودة انقطاع المياه .
أخيراً
من المفارقات العجيبة ان تجد شوارع العاصمة وقد تحولت خلال ساعات الى بحيرات بينما حنفيات المنازل تواصل شخيرها.. ويبحث المواطن عن عربة كارو يشتري منها ماء ليطفئ العطش الناجم من الخوض في مستنقعات الأحياء طيلة اليوم.
هادية: نبيل: عمار: عباس: هدير:الراي العام