قبل أن تحرقه الجماهير
في المظاهرات الجماهيرية التي انطلقت خلال الأعوام الماضية لفت نظري سلوك مدهش.. الجموع التي تشارك في المظاهرات تحرق بصات المواصلات العامة لولاية الخرطوم.. ليس في مظاهرات عام 2012 وحدها ولا مظاهرات سبتمبر 2013.. بل حتى في بعض المظاهرات الصغيرة التي تنشأ لأي سبب احتجاجي.. دائماً هذه (البصات) أحد الأهداف المحببة للغاضبين..
بالله عليكم ألم تفكر ولاية الخرطوم في دراسة السبب الذي يجعل هذه البصات رغم كونها خدمة أساسية للجمهور- واحدة من (الجمرات) التي يرميها الغاضبون بالحجارة بل ويحرقونها؟
حسناً.. سأشرح لكم السر.. لكن قبله سأقول لكم مناسبة هذا الاستدراك اليوم.. إنه الخبر الذي نشرته بعض الصحف أمس أن ولاية الخرطوم على وشك تسيير قطارها الجديد.. المصنَّع خصيصاً للسودان في دولة الصين.. والذي تتوقع الولاية أن يحقق انفراجاً مهماً في المواصلات العامة.
أعود للموضوع الأساسي.. الشعب السوداني يستخدم أدوات (تعبير جماهيري) غاية في القوة والتأثير النفسي.. وتجاهل (أو جهل) الجهات الرسمية بهذه الخاصية السودانية دائماً يوردنا المهالك والضرر الجسيم.
مثلاً.. عندما استحدثت هيئة الكهرباء فكرة (عداد الدفع المقدم) أسبغ الشعب السوداني عليها اسم (الجمرة الخبيثة).. وهو تعبير جماهيري غاية في القسوة يوضح فهم الناس للمشروع.. فـ(الجمرة الخبيثة) مرض خطير معد يستخدم في الحرب الجرثومية.. وقصد الشعب من المصطلح التعبير عن رفضه للمشروع. رغم أن الزمن بعد ذلك أثبت نجاحه.. لكنه لا يزال مواجهاً بمثل هذا (الشعور السلبي)..
لو.. استخدمت هيئة الكهرباء آنئذ- مفاهيم الإعلام الجماهيري الذكي ربما لما احتاج الناس لاستخدام تلك الوصفة الوصمة..
ولاية الخرطوم كررت خطأ الكهرباء.. اشترت البصات وملأت بها الشوارع.. دون أي اعتبار للجانب (الإعلامي) الممهد لأي مشروع كبير.. فكان أن تبرع الناس طواعية باسم (بصات الوالي).. وهي إشارة سالبة للغاية.. تفصل الشعور العام تجاه هذه البصات.. وتصفها بأنها بصات الحكومة لا الشعب.. ولهذا كلما اندلعت مظاهرة.. غاضبة من الحكومة بحثت الجماهير عن رمزها (بصات الوالي) فصبت فيه جام غضبها.. أشبه برمزية رمي الجمرات للتعبير عن ضرب (الشيطان) عند جمهور الحجاج..
الآن ولاية الخرطوم تكرر الخطأ.. ستسير قطارات.. وفعلاً بدأ يتسرب للإعلام.. بعلم أو بجهل.. مصطلح (قطار الوالي).. وبالتأكيد سيلتحم الشعور الغاضب في لحظة أي غضب.. مع هذا الوافد الجديد.. ونسمع في الأخبار عن إحراق (قطار الوالي) في أي موقع تزوره الاحتجاجات.
الفكرة بسيطة للغاية.. الشق (الإعلامي) النفسي مهم للغاية لأي مشروع كبير.. فالإعلام ليس مجرد قص الشريط في حفلات الافتتتاح.. والخطب الحماسية.. أو تلك المشاهد التي تبثها نشرات الأخبار لكبار المسؤولين وهم يتفقدون المشروعات.. لا.. الإعلام هو (فن التعامل) مع الجمهور Mass communication ..
يجب أن تضع الولاية خطة إعلامية قبل وصول هذه القطارات. وتبدأ في البحث عن اسم مناسب تستسيغه الحاسة الشعبية الجماهيرية.. اسم يضخ في الإحساس العام أن الشعب هو مالك القطار لا الوالي.. البحث عن اسم مؤثر بقوة على الضمير الجماهيري العام.
هذا هو الإعلام الحقيقي..!!
حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]