الثقافة.. بشريات جديدة
بالأمس استمعنا لوزير الثقافة الطيب حسن بدوي، وهو يعرض لأول مرة على الصحافيين وقادة الرأي، كتابه وخطة وزارته ومستقبل الثقافة في بلادنا، وكيفية تخطيط العمل الثقافي والنهوض به وتحدياته الماثلة.
وأثارت كلمات الوزير وما عرضه في مؤتمره الصحفي أمس بقاعة وزارة الإعلام، أسئلة الواقع الثقافي وقامت من مرقدها الكثير من الملاحظات ومثيرات الحيرة، التي ظلت باقية على مدى عمر الإنقاذ التي لم تزل تزعم أن مشروعها في الأساس هو مشروع ثقافي.
ما قدمه الوزير من رؤية وتخطيط وأفكار وتصورات، لا غبار عليها، فهي المطمح والمرتجى لكل المشتغلين في ساحتنا الثقافية، وتحمل تطلعات المبدعين الذين لا يريدون من الدولة سوى أن تهيئ المناخ وتدع مائة زهرة تتفتح، وتعبد الطريق الذي تنطلق عليه مكونات الفعل الثقافي والأدباء والفنانين والمثقفين في إطار من التنوع الخلاَّق والتعبير عن تجليات الهوية السودانية.
وأجاب الوزير عن أسئلة ملحاحة تقف مثل غصص الحلق، بشأن الواقع المزري للعمل الثقافي وموقعه من أولويات الدولة، وهل تتوفر إرادة جادة وحقيقية في دعم الثقافة وهي لبنة أساسية من لبنات بناء الأمة وتوجهاتها وسياجاتها الحصينة؟
لا بد أن يخرج الحوار حول الشأن الثقافي من دائرة السلطة والوزارة ووسائل الإعلام، إلى باحة أوسع وساحة فسيحة حتى يعطي ثماره، فقد قدمت الإنقاذ في بداياتها في سنواتها الأولى مشروعاً متكاملاً للإحياء الثقافي عكفت عليه لجان ضمت كبار المفكرين والمثقفين والمبدعين، وكان ذلك في إطار الإستراتيجية القومية الشاملة، وكان ذلك المشروع يمد جذوره إلى الرصيد الموجود أصلاً من تخطيط العمل الثقافي في السودان منذ عقود طويلة وتجارب تمت خلال فترات الحكم الوطني وقبله واستناداً إلى حيوية وطلاقة واندياح العمل والنشاط والحياة الثقافية السودانية دون قيود ومحددات، كونت في النهاية ملامج الشخصية السودانية وثقافتها التي نعيشها اليوم.
وكانت الآداب والفنون السودانية على مرِّ التاريخ الحديث هي القوة الناعمة التي سيطرنا بها على المزاج القاري حولنا في جوارنا الإفريقي وتمددت إلى آفاق بعيدة دوَّت في مجاهل القارة السمراء وفي محيطنا العربي، ففي إفريقيا كانت الموسيقى والغناء السوداني والتقاليد والفكر هي روحنا التي تغلغلت في الجسد الإفريقي وشكلت جزءاً مهماً من حركته ونشاطه وتكوينه، وفي العالم العربي كان الأدب والشعر والرواية والقصة والثقافة العربية واللغة وأسرارها وأساطينها وعرابوها وسدنتها هي المعالم التي قيدت إلى أوتادنا العتيقة المسمع والمشهد العربي وجعلت أفئدة العرب تهوي إلينا.
ولذلك من الخطل الظن أن الثقافة تقع عند آخر ركن قصي من أركان اهتمامات الدولة، فلن تستطيع الحكومة مهما أُوتيت من قوة أو تحسنت أوضاعها الاقتصادية أو قويت شوطتها أن تؤلف بين قلوب الناس في الداخل، وتجتذب إعجاب ومحبة ورباط الخارج، دون أن تلتفت إلى تقوية وتمتين ودعم العمل الثقافي وإقالة عثراته وشحذ همم أهله وإصلاح أوعيته وأدواته.
وقد استبشر الناس بعودة وزارة الثقافة مرة أخرى لتقود هذا العمل الجبَّار، لكن ذلك وحده لا يكفي، فعلى الدولة أن تحدد ملامح مشروعها الثقافي وما تريده أن يكون في مضمار الثقافة، فحتى هذه اللحظة توجد تصميمات لبرامج وهياكل وفعاليات وأنشطة ثقافية وإبداعية، لكن كيف يُصاغ مشروع متكامل وفق رؤية هادية تقوم على فكرة وأسس ومرجعيات واضحة.. غير موجود، فتوفير الإمكانات والدعم المادي وتشجيع المجتمع وحفزه للإبداع وإزالة كل القيود المعيقة للابتكار والفنون مع استكمال توليد الأفكار والتصورات وسن التشريعات وإزالة العوائق سيقود حتماً للآفاق الجديدة التي تناولها الوزير الطيب حسن بدوي في حديثه أمس.
لقد آن الأوان أن يكون للثقافة دورها الرئيس وصوتها القوي، فهي كما ذكرنا قوتنا الناعمة التي تحقق لنا الريادة والنفاذ وتأشيرة الدخول في العالم حولنا، وهي التي تجعل العالم يعرفنا أكثر ويشعر بواقعنا وحياتنا ويتلمَّس قضايانا، فالبرغم من ثروتنا الثقافية الهائلة التي لا تُقدَّر بثمن.. مازلنا نعيش تحت خط الفقر في النشاط الثقافي والتعبير عن قيمنا وتاريخنا ومعارفنا وهويتنا.
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة