سياسة استحلاب الطير
ومِمْا لا أُنْكِرها ولا أدّعيّ تجاوزها، هي تصريحات الإمام الصادق المهدي، وخطابه السياسي المُرتبك والمُربِك في آن، فخطاب الإمام حال تفكيكة وإخضاعة لقراءة تأخذه في سياقِ الأحداثِ المُنتِجةِ له، تجِده قاصراً نفسه على عوارِفِها (لا فئ ولا ثمر) يُطعم به السياسة السودانية ويُسكتُ جُوعها، عدا شق تمرة جاف ظلّ يُكرِمْ بِهِ وفادة زاويتي هذه، شقٌ من الأمثالِ والحكم يمُدُ يده ليأتي بها من (ظلمات سحيقة) وأزمنة غابرة يُعاير بها الوقائع الماثلة ويُقاربها لإنجاز مكاسب آنية (تاكتيكية)، في علاقتة بالحزب الحاكم التي تشبه عملية (الطرد المركزي) التي تعتمد على مبادئ الدوران، حيث أنه يمكن تقسيم وإبعاد الجزيئات الثقيلة عن الجزيئات الخفيفة بفعل الدوران، وهذا هو المبدأ الذي تعمل بموجبه غسالات الملابس (ونشافاتها).
وغسيل الحزب التقليدي الذي يتزعمة الأمام يتبدى في، ويُحايث تصريحاته المؤسسة والقائمة على الأمثال الشعبية التي يطلقها في العالمين كلما مأزقة المؤتمر الوطني من جهة، و(حفرت) له المعارضة من أخرى.
و يبدو أن الإمام لم يسره اقتراب عرّاب النظام الإنقاذوي حسن الترابي من تلاميذه ومريديه وحوارييه مُجدداً على خلفية (إن المصائب يجمعن المصابينا)، قرر أن يناهض الكل بطريقته ذاتها، فبعد أن قلب ظهر المجن للمعارضة و(استعدل) في سبيل الالتحاق بالحكومة المُفترضة (انتقالية/ مؤقتة/ تصريف أعمال/ أزمة) سمها ما شئت، خسئت مساعيه، إذ أن الترابي (دخل من باب الخروج).
ودخول الترابي سيُضعف بالتأكيد من حظوظ الإمام، وكلما ضعف حظه، رفدنا (رضي الله عنه) بأمثال وحكم تكون زخراً ورصيداً لنا (دنيا وآخره)، وهذا ما حدث بالأمس، إذ لم يكتف بتأكيده عدم اشتراكه في الحكومة القادمة حتى لو استحلب له المؤتمر الوطني الأطيار وقدّم له حليبها في (قرعة)، قال: (لو أدونا لبن الطير، لن نشارك)، لم يكتف بذلك بل كشف عن أنه يمتلك أدلة تثبت أن الأنقاذ خططت بالفعل لقتله، بل ذهب أكثر من ذلك، إذ قال إن المكلفين بقتلة تمت تصفيتهم باعتباهم نفذوا المهمة بنجاح)، ورد هذا في حوار الزميلة (الصيحة) أمس مع الإمام.
لو حاولنا نحن القابعين هنا، استحلاب لبن طير من تصريحات الإمام، لاكتفينا بقطرة صغيرة، قطرة بحجم تلك التي تنبثق من إبرة (حقنة)، وهي إن تكنيك الإمام السياسي أصبح مكشوفاً ولا يسر عدواً أو صديق، وأن موقفة بين هنا وهناك ومنزلته بين الحكومة والمعارضة، ومعارضته للاثنين معاً، وتحالفه معهما سوياً، لا يعدو كونه حالة من (الجحم والشراهة) للسلطة، أي الفريقين وصلها فنصيب الإمام منها محفوظ.
لذلك بدا لي وأنا أرصد سيرة الإمام، أنه نفسه بتصريحاته هذه، ومواقفه البين بين، وحالة الغموض التي تكتنفها، أنه يفعل ذلك لاستحلاب تعاطف مناصريه وقاعدته العريضة التي بدأت تنفض من حوله، رغم أنني أرجح أن يكون تصريحه صحيحاً، لكن لماذا صمت هذا كل هذه السنوات، ثم هب باسطاً ذراعيه بوصيد الصحف كاشفاً لنا عن ساقي مؤامرة اغتياله، في هذا التوقيت بالذات.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي