ملائكة الرحمة
المواقف الصعبة وحدها تبين معادن الناس.. تساعدك على إعادة اكتشاف من حولك من خلال ردود أفعالهم.. تفاجئك في الجميع امتناناً أو خذلاناً.. ويمكنك عبرها أن تختبر طاقتك الداخلية على الصبر وحسن التدبير.. ثم إنها تجعلك أشد التصاقاً بإيمانك، إذ تبهت كل صور الحياة الزاهية في عينيك وتستحيل إنساً قنوعاً زاهداً لا يبتغي سوى فرج الله ورحمته.
هكذا مضى الأسبوع المنصرم من عمري.. ما بين القلق والسهر والإحساس المقيت بالعجز.. توقفت فجأة كل الحياة من حولي.. وباغتني صروف الليالي من حيث لم أحتسب.. كانت الوعكة العسيرة التي ألمت بصغيرتي (ليمار) ذات الثلاث سنوات سانحة عصيبة، لأعيد تقييم الأشياء والأشخاص.. حتى أمومتي العزيزة اكتشفت لها بعداً آخر.. وتعرفت على واحد من وجوه الحياة المعتادة في بلدي، ولكن عن كثب.. وعن تجربة.
وكنت حتى وقت قريب أتحامل على العاملين في الحقل الطبي واتهمهم بالتهاون واللا مسؤولية، على الرغم من أن الوضع العام وسياسات الدولة الطاردة تلعب دوراً كبيراً في ذلك.. غير أن تلك الصورة النمطية الباهتة قد تحولت بداخلي بنسبة كبيرة إبان التجربة التي عشتها بين جنبات مستشفى الدكتور (أحمد خالد حميدة) للأطفال.. التي قصدتها مستغيثة إثر الوضع الصحي المتردي لابنتي.. كانت قواها خائرة وأنفاسها متهدجة والحمى تقتات من جسدها النحيل فتسلمني لحالة من الفزع وهواجس الفقد.. فوجدتهم في تمام إنسانيتهم.. مجموعة من الشابات في مقتبل العمر.. تلقينني ببشاشة وتقدير كامل لجزعي وعصبيتي.. ولكأني بهم عالجوا ثورتي قبل أن يمعنوا في إنقاذ صغيرتي المنكوبة.
وحالما استقرت حالتها نسبياً وقدر لنا أن نبقى طريحي الفراش الأبيض بذات المستشفى حتى بدأت أراقب الجميع.. وكأنني أبحث بحسي الصحفي المتمعن عن هفوة.. فدحضوا جميعاً سوء ظني بهدوئهم وبشاشتهم وحسن تصرفهم وكامل عنايتهم.. وأعادوا لي نسبياً ثقتي في (ملائكة الرحمة) الذين لا تعرف الرحمة إلى بعضهم سبيلا.. وأكدت ضرورة توظيف الشباب واستغلال طاقاتهم الإيجابية من أجل البلاد والعباد.. ولا أعرف على وجه التحديد هل تعمدت إدارة المستشفى اختيار غالبية طاقمها من الشباب أم أنها مجرد مصادفة حميدة؟
كما أن تلك الليالي الليلاء عرفتني على أصدقائي الحقيقيين.. وأكدت لي حسن اختياري لبعضهم من الرائعين البواسل صناديد السراء والضراء.. كما ساهمت في اكتشافي لنبل بعض الذين لم أكن أتوقف عندهم طويلاً ولكنهم أسروني بودهم واهتمامهم.
وعلى الصعيد الشخصي كانت وعكة (ليمار) سانحة ذهبية لأختبر قدرات إخوتي وأعرف عنهم ما لم تكن أعرفه من قدرة على الاحتمال والتصرف السليم والتجرد.. وهنا اسمحوا لي أن أنحني احتراماً لشقيقتي الصغرى (ملاذ) التي علمت كم هي كبيره بقوة شخصيتها وحسن تقديرها وفهمها للأمور وقدرتها على اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب وشجاعتها في الملمات.
والعديد من الأسماء تتوالى على خاطري من واقع تلك الأيام التاريخية التي سمحت لي بالجلوس مع ذاتي بعيداً عن صخب العمل والتزاماتي الكثيرة.. لا شيء سوى أمومتي وقلقي وتأملي الصامت واستعراض شريط حياتي الطويلة الذي تساقط منه العديد من الأشخاص ممن لا يمتون للإنسانية بصلة.
مفاهيم كثيره اختلفت الآن بشخصيتي.. وحماس كبير يسكنني للتقصي وسبر أغوار كافة الأمور الحياتي التي قد يكون ظاهرها الهدوء، ولكن باطنها الصخب والضجيج.
فلا تركنوا لاعتقاداتكم القديمة وتتخذوها كمسلمات في كل ما يتعلق بحياتكم.. حاولوا أن تصقلوا أرواحكم بالتجارب.. بالغوص في التفاصيل.. وأعيدوا النظر في معتقداتكم وعلاقاتكم.. فربما تكتشفوا أن الخير لايزال موجوداً بيننا مثلما حدث معي مؤخراً عندما خرجت من محنتي هذه بفوائد عظيمة أهمها أن ملائكة الرحمة أيضاً يستحقون المزيد من الرعاية والاحترام وإيجاد الأعذار وتهيئة الأوضاع ليبعوا ويعطوا ويمارسوا رسالتهم النبيلة بكامل الرحمة والإنسانية.
تلويح:
تحية احترام وامتنان لطاقم مستشفى أحمد خالد حميدة وعلى رأسهم د.(أسامة جعفر) اختصاصي بهدوئه ووقاره.. ود.(شذى) بالحوادث.. وللسسترات المهذبات (رماز) و(سلوى).. ولكني أناشدهم بعض الترفق بجيوب المواطنين المنهكة.
إندياح – صحيفة اليوم التالي