رأي ومقالات

غموض غياب إعلام المليشيا في لحظات مفصلية ودور الجهود المجتمعية في إضعافه

غابت الآلة الإعلامية للمليشيا في حدث تاريخي متسارع، وكأنها لم تكن موجودة من قبل، رغم أن الأموال الطائلة كانت تُصرف عليها، ورغم الحشود الإعلامية التي تم تجنيدها من قبل شركات مختصة، واستشاريين وفنيين متخصصين.

هذا الغياب المفاجئ والمثير للاهتمام، يمثل أكثر من مجرد غياب إعلامي؛ بل هو رسالة ضمنية تؤكد أن المال والقوة لا يمكن أن يعوّضا عن غياب الفكرة أو القيم الأخلاقية التي تدعم أي مشروع سياسي أو عسكري.

في لحظات مفصلية، حيث كانت البلاد على أعتاب مرحلة تاريخية حساسة تسعيد فيها حريتها واستقلالها، شهدنا غياباً تاماً للإعلام التابع للمليشيا، والتي كانت قد حشدت حولها العديد من الأذرع الإعلامية، مدفوعة بنفوذها المالي والسياسي. ورغم هذه المحاولات المكثفة، لم يعد لهذا لإعلام الموجه تأثير يذكر على الأرض، ولم ينجح في ترك بصمة واضحة في المعركة الإعلامية مؤخرا، التي تشكل جزءاً أساسياً من الصراع السياسي والعسكري.

إن غياب هذه الآلة الإعلامية في لحظات التحولات الكبرى ليس مجرد تصرف عابر، بل يكشف عن أزمة عميقة في بنية هذا المشروع الإعلامي، الذي كان يعتقد أنه يستطيع أن يفرض نفسه بالقوة المالية والإعلامية. ففي وقت كانت فيه الدولة تواجه تحديات كبيرة، خاصة بعد تمرد الدعم السريع على المؤسسات الحكومية، كان الإعلام المنسوب للمليشيا غائباً عن تغطية هذه الأحداث الكبرى. وهو ما يعكس، على أقل تقدير، فقدان القدرة على التأثير في الرأي العام وفي تطور الأحداث.

أكثر من ذلك، فإن غياب الإعلام الذي كان يروج لمشروع آل دقلو الاستيطاني، يبرز أيضاً محدودية تأثير وسائل الإعلام التي تفتقر إلى القيم والمبادئ الأساسية التي تجعل منها قوة مؤثرة في تشكيل الرأي العام. حيث لا يمكن لآلة إعلامية فارغة من المحتوى والهدف أن تترك أثراً حقيقياً في الأحداث التاريخية. فالمنشورات الهزلية على منصات ترفيهية، والتي يتم نشرها حاليا بهدف إحداث تأثير سريع، لا تعكس بأي حال من الأحوال القوة الإعلامية التي كان يتم التسويق لها سابقاً.

إلا أن الدور الأكثر أهمية في إضعاف هذا الإعلام المغلوط كان من نصيب الجهود المجتمعية التي لعبت دوراً حاسماً في مواجهة تأثير هذا الإعلام، من خلال تبني قيم الشفافية والتواصل المباشر مع الجمهور. في ظل غياب الإعلام الرسمي والمستقل في بعض الأحيان، انطلقت العديد من المبادرات المجتمعية التي استطاعت أن تبني قاعدة شعبية وتمد جسور الثقة بين المواطنين والمجتمعات المحلية. هذه الجهود، سواء عبر الإعلام المجتمعي أو المنصات الرقمية التي يديرها المواطنون بأنفسهم، ساعدت في كشف الحقائق ونقل الوقائع بعيداً عن روايات المليشيات، ما ساهم بشكل كبير في تقويض محاولات التأثير الإعلامي التي كانت تحاول فرض سردية مغايرة للواقع.

كان للمواطنين دور فعال في نشر المعلومات وتبادل الحقائق عبر منصات التواصل الاجتماعي، مُحدثين بذلك ثورة إعلامية من نوع جديد، حيث أصبح كل فرد في المجتمع جزءاً من عملية التأثير والنقل الإعلامي. وقد أظهرت هذه الجهود المجتمعية قدرة استثنائية على مقاومة الروايات المضللة التي كانت تروج لها المليشيا، بفضل التكاتف الشعبي وتنسيق الجهود بين مختلف الفئات.

في هذه اللحظة التاريخية، تصبح المقولة الثورية “مافي مليشيا بتحكم دولة” هي المرجع الحاسم الذي يحدد مصير المشاريع العسكرية والسياسية التي تسعى للهيمنة على الدولة دون سند شعبي أو مؤسساتي حقيقي. فالمؤسسات الوطنية هي من تملك القدرة على التأثير الفعلي في إدارة الدولة، وليس المليشيات أو من يقف خلفها من قوى إعلامية فارغة.
ختاماً، يمكن القول إن الإعلام، كما غيره من الأدوات، يحتاج إلى أكثر من مجرد الأموال والشركات للاستمرار والنجاح. يحتاج إلى فكرة قوية، وقيم ثابتة، ورؤية واضحة تدعمه وتوجهه نحو غايات تخدم الشعب وتحقق مصالحه. أما دون ذلك، فلا يظل للإعلام سوى أن يصبح أداة فارغة تُستخدم مؤقتاً، ثم تختفي مع اختفاء حاجتها.

م. أحمد المجتبى حاتم