رأي ومقالات

تفاصيل مشهد عادي

كنت وحدك تقرأ وقد تبعثر في وجهك حزن خاص … العناوين البارزة للصحف الصادرة صباح ذلك اليوم … “المواطنون يصطفون حتى الساعات الأولى من الصباح بحثاً عن قطعة خبز “.

كان الزمان مفعماً بالهم، ولا أحد يغني سوى مذياع الحكومة، وكنت وحدك ممتلئاً باليأس حين وجدت مكاناً في الصف الخرافي وهتفت بصوت حائر “ملعون أبوك بلد” ، لا أحد يسمعك في هذا التراهق، الزحام الصراخ الإحباط أبعاد هذا المكان …

وكنت وحدك تحس بفيض من الأسى، أما العم كان يمارس الشبق اليومي في معادلة الزمن الرديء…

هذا الحيز حقي أنا.

لا أحد يشتري قبلي يا أولاد الـ … تلك العبارات يطفح بها “الصف الخرافي” ولا أحد يغني سوى … طفرت دمعتك تنعى الإنسان، فأنت وحدك أحسست بعظمة هذا البلد، وغنيت للثورة والمطر والأغنيات الزين و… و…

قبل أن تغوص في الإعصار، كنت قد امتصصت صفاء عينيها، مدهش هذا الجمال !! هكذا حدثت نفسك حين دفعك الصف الخرافي من الخلف، كدت أن تقع تحت قدميها فرأيت ساقيها الممتلئتين.

كانت في التاسعة عشرة وكنت في العشرين حين وازى الصف الرجالي صف النساء وتساءلت خفية: من اقترح هذا الاقتراح العقيم؟!.

“قيل أن بعض الرجال الذين أشاروا بذلك في إحدى خطب الجمع منذ أن بدأت الأزمة”.

قلت لنفسك وأنت تبذل مجهوداً مقدراً للاحتفاظ بتوازنك … ألم يروا الحج، هذا مثال رائع للمجتمع !!.

أفقت مرة أخرى حين دفعك الصف “الخرافي” بغلظة الآن قد رأتك بوضوح، فتفتق وجهها بفرح طفولي، فنسيت الأغاني التي يبثها مذياع الحكومة “وصلت السفينة محملة بالدقيق والمواد الغذائية و… و… “.

ونسيت بالطبع الاختلاف الذي أصابك وأنت تحاول تشكيل الأشياء بصورة منطقية !!… آه من عينيها تارة عاودك الهذيان شعرت بشرر المعركة يتطاير حين هتف الرجل ذو الكتفين العريضتين اللذين يبدي إعجاباً بهما يثير الفضول: يا “أخونا ” ننتظر ساعة أخرى لأن العجين نفد … و…

غشيها يأس ملحوظ، ولكن ما أن نظرت لها حتى عاد لها سكونها المميز، الآن بدأت تغازلها حاولت أن تستعيد قاموس المغازلة ولكن لم تسعفك الذاكرة فقد صدئت أمام هذا السكون المميز !!.

قالت “بوقار”: كم الساعة الآن ؟.

قلت أنت – عفواً – الزمان زمانك، ابتسمت، لم تحس أنت بالخدر الذي أصاب رجلك اليمنى من طول الانتظار، فشملتها بنظرتك الدفيئة، أغمضت عينيها، تأوهت وزفرت فأحسست وحدك بالنسيم وسط الاختناق القاتل.

الآن يحاصرك النسيم والزحام يخمد التراهق برهة فاستغربت لهذا الهدوء المفاجئ الذي أتاح لك رؤية العالم وهو يتمدد في كسل وتأفف من أثر المعاناة وممارسة الشبق اليومي.

تلفت حولك باحثاً عنها … كانت قد اتخذت مكاناً آخر وقد نما في عينيها حزن شفيف … تساقط على مسمعيك حديث غاضب.

نحن نحتاج إلى ثورة البروليتاريا حتى نحقق الحلم الثوري.

والانتفاضة يا عزيزي…

لا أعتقد … نحن نحتاج إلى العمل والإنتاج وفوق هذا الضمير لأننا نعيش في أزمة حقيقية هي أزمة الضمير.

هذه قيم برجوازية.

بل هي الثورة الحقيقية التي ترفع شأنها و… و…

تلاشى حديثهما في الجو الخانق والإعصار، فجأة صفعتك الحركة الهستيرية التي دبت في الصف “الخرافي” … وبقوة التراهق اليومي اختلط صف الرجال بصف النساء وتعانق البعض في الهواء ونظرت في كل الزوايا والأنحاء وجدتها ما زالت تحتفظ بسكونها المميز، الآن يحاصرك الزحام والإحباط، ولا أحد يغني سوى عينيها الصافيتين الآن انبجست منك رغبة صادقة في امتلاك القصائد والأناشيد، فقد صارت تتنفس الهواء الذي استنشقته بصورة طبيعية ودون مقاومة تذكر، أصبحت تسمع دقات قلبها، وكنت وحدك تختلس النظرة -النظرة – وكانت قد لطمتك بسهوها النبيل فارتد بصرك خاسئاً … “أظنها سامية، نعم س…ا…مية هذا السكون المميز !! وتلك الابتسامة الرضية … لا … لا … لا هناك شيء ما وراء البسمة والنظرة، أحسّ بالتحدي … خصلاتها الهاربة وثغرها الدائم الابتسام يجعلانني أقترح أنها أمل ..!!.

كان الشبق اليومي يمارس بعنف وبشكل استثنائي كانت تتفحصك في حياء وبين الالتفاتة والانتباهة، تستقي من ابتسامتك الساخرة مدداً “أعتقد أنه شاعر، نظراته قلقة مليئة بالحيرة والشرود … و… يا ترى ما اسمه؟.

.. محمد، علي، معز، أنه أحمد نعم أ… ” لماذا يبحلق فيّ؟ إنني لم أرتد فستاني الوردي الجديد، ولم أقف أمام المرآة وكل الأمر أنني خرجت ملء نفسي زهقاً ويؤلمني ذلك الرجل الضخم الذي يرمي بثقله على جسدي الضئيل الـ …

كنت وحدك تتمتم “إنها أمل … أمـ … ل … ألا تصدقوني”، الآن كنت قريباً منها، مددت يدك فلامست يدها … أحسست وحدك في أن تغرق وجهك في صدرها، فوجئت بدمعة حرى تسقط على خدها أضافت لحزنها الشفيف بعداً آخر، حاولت أن تعتذر فأصابك ارتباك أخرق، حينها شيعتك بنظرة مليئة بالامتنان … ودون وداع دفعك الصف “الخرافي” بقوة الشبق اليومي للإعصار والمعركة بالقرب من الشباك الحديدي حيث الزحام والإحباط وأمل و… و… و…

عادل عبد الرحمن عمر