رأي ومقالاتأبرز العناوين

حسابات روسيا تجاه سوريا

التطور الدراماتيكي المفاجئ في سوريا والذي انتهى بسقوط حكم عائلة الأسد الذي دام قرابة الستة عقود؛ يثير العشرات من الأسئلة الملغزة، من قبيل، هل ما حدث في سوريا كان مخططا له أم مفاجئا؟ من المستفيد الحقيقي من ذلك؟ هل تقف جهات خارجية وراء دعم الفصائل المسلحة؟ هل لإسرائيل يد في تحريك تلك الأحداث؟ وهل سوريا ذاهبة إلى سيناريو التقسيم؟….إلخ.
لكن من بين جميع تلك الأسئلة، يعد سؤال لماذا تخلت روسيا بصورة سهلة ومفاجئة عن بشار الأسد؟ هو السؤال الأهم والأخطر-في تقديرنا- لأن هذا التخلي يشير أو يعكس الكثير من الحقائق حول تطورات الأحداث في سوريا ومستقبلها.

كانت روسيا في المقام الأول، وبدعم من إيران وحزب الله في المقام الثاني السبب الرئيسي لاستمرار نظام بشار الأسد طيلة عقد ونصف العقد منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. والأهمية الحيوية للدعم الروسي لبشار كانت لا تكمن في قوتها النارية ضد قوات المعارضة ثم ضد داعش؛ بل في وزنها الدولي خاصة في مجلس الأمن لعرقلة أية مخططات غربية لإسقاط بشار أو مشروعات قوانين لتضيق الخناق عليه أو معاقبته.

ولأنه لا يوجد عشاء مجاني في السياسة الدولية، فروسيا بدعمها لبشار قد ضمنت قاعدة بحرية عسكرية لها على سواحل المتوسط في «طرطوس»، وأخرى جوية في «حميميم». وبذلك، قد تمكنت روسيا من تمديد نفوذها إلى البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا في إطار سعيها لترسيخ مكانتها كقوى كبرى وتجميع أوراق الضغط على الولايات المتحدة وأوروبا.

وعلى هذا الأساس، لم يكن أحد يتصور أن تتخلى موسكو بسهولة عن بشار الحليف المضمون، وتخاطر بهذا التخلي بتلك المصالح الاستراتيجية التي جنتها على مدار عقد ونصف العقد.

فور التقدم السهل والسريع للفصائل المسلحة في حلب دون رادع واضح من جانب موسكو؛ تباينت كبرى الصحف العالمية بخصوص موقف روسيا، وقد استقرت تقريبا على رأيين رئيسيين: مفاد الأول وجود صفقة بين روسيا والقوى الغربية (سوريا مقابل أوكرانيا). والثاني هو الإشارة إلى الخسائر أو الانتكاسة الكبرى لروسيا من فقدان حليفها الأسد، وهو ما يعكس تقهقر لقوة ونفوذ روسيا الدولي والإقليمي، وكسر هيبتها وسمعتها أيضا كقوى عظمى.

وحقيقة الأمر، أن تخلى روسيا السريع المفاجئ عن بشار يعكس في طياته إعادة تفكير روسي ممتزج بين الرأيين أو التحليلين؛ سيما وأن التطورات في سوريا وإعادة الحسابات الاستراتيجية لموسكو ليست بمعزل عن التطور الدراماتيكي الأهم وهو وصول ترامب للبيت الأبيض.

وفقا لتسريبات متعددة يعد الآن لصفقة بشان أوكرانيا تتمحور حول تعهدات لموسكو بعدم انضمام أوكرانيا للناتو، واعتراف بسيادة تامة لموسكو على القرم وأربعة أقاليم أوكرانية. ووفقا لتسريبات أخرى نحسبها موثوقة، قد جرت تفاهمات مع موسكو بشأن السماح لها ببقاء قواعدها في سوريا. وإذا صدقت هذه التسريبات فهي مؤشر خطير على سيناريو تقسيم قادم لسوريا.

في جميع الأحوال، أو بعيداً عن صفقة بشأن تمديد الحضور الروسي في سوريا؛ تعد أوكرانيا حاليا الأهم لروسيا إذا تم الوضع في الحسبان عدة معطيات رئيسية: الفرصة التاريخية لموسكو الممنوحة من ترامب عبر تلك الصفقة، والإنهاك العسكري والاقتصادي الرهيب الذي تئن منه روسيا جراء الحرب الأوكرانية، والضعف الشديد لقوات «فاجنر» بعد مقتل زعيمها والتي تعد ذراع روسية حاسمة لتعزيز حضورها ونفوذها في العالم.

الحرب الأوكرانية بلا أدنى شك أنهكت روسيا بصورة كبيرة، ويحسب للغرب بقيادة واشنطن نجاحه في إنهاك روسيا عبر الدعم المتواصل لأوكرانيا. وفى ضوء ذلك، يجب على موسكو حسم الأولويات القصوى للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ وهيبة. وبالتالي، فخسارة سوريا، أو تحديدا خسارة بعض المكتسبات الاستراتيجية من الدعم المطلق لبشار الأسد، أمر لا بد منه لإنهاء الحرب الأوكرانية والخروج بمكاسب استراتيجية والحفاظ على توازن القوى لروسيا أمام أوروبا. وفوق كل ذلك، حفاظ نظام بوتين على قوته وشرعيته التي كانت في طريقها للتداعي الحتمي بسبب طول الحرب الأوكرانية.

خلاصة القول، سوريا مقابل أوكرانيا هو التفسير الواقعي العقلاني المقبول لفهم الأسباب الرئيسية للتخلي السريع والمفاجئ عن بشار الأسد أحد أهم حلفاء روسيا الرئيسيين. وهذا في حد ذاته يعكس أن أوكرانيا هي الأولوية الرئيسية لموسكو، كما يعكس تراجعا في القوة والنفوذ الروسي جراء الحرب الأوكرانية.

والمشهد برمته يعكس بجلاء إعادة ترتيب لسوريا منطقه الرئيسي التخلص من جميع أدوات إيران وعلى رأسها الأسد والمستفيد الأول والأهم إسرائيل بلا أدنى شك.

د. فاتن الدوسري – الشرق القطرية
20230918 1695036305 646