تحقيقات وتقارير

آليات التأثير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية

أحداث متلاحقة في شبه الجزيرة الكورية عنوانها الأبرز التصعيد. كوريا الشمالية تقرر قطع كل الطرق والسكك الحديدية مع كوريا الجنوبية. ومن ثم تشرع في تنفيذ القرار الذي اعتبرته كوريا الجنوبية ضد الوحدة. تلك الوحدة التي لم تعد كوريا الشمالية تبغيها، بعدما اتجهت إلى توصيف كوريا الجنوبية على أنها العدو الرئيسي. ومن ثم سعت إلى تكريس هذا الوضع في الدستور. ويبدو أن هذا ما حدث بالفعل.

ترافق مع كل ذلك اتهام كوري شمالي للجنوب بإرسال طائرات مسيرة إلى سماء بيونج يانج أكثر من مرة لإلقاء منشورات تحريضية. وقد صاحب هذا الاتهام تهديدات حادة. كما أن بيونج يانج واصلت إطلاق بالونات القمامة تجاه الجنوب، وهي العملية المستمرة منذ شهور.

هذه المرة لم تقف الحدة عند الخطاب والخطاب المضاد من الشمال والجنوب، وإنما بلغت الحدة ذروتها في الإجراءات على الأرض تماماً كما هو الحال في الوثائق القانونية والدستورية. الوصول إلى هذه الحالة من القطيعة التامة بين الكوريتين يترافق مع استقطاب دولي واضح فيما بين الولايات المتحدة وحلفائها وبين كل من روسيا والصين. فكيف تأثرت الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية بحالة الاستقطاب الدولي تلك؟، وما هو المسار الذي يمكن أن تسلكه تطورات الأحداث في شبه الجزيرة الكورية على ضوء التفاعلات الراهنة بين الكوريتين وبين حلفاء وأصدقاء كل منهما؟
ملابسات القرار الكوري الشمالي

في التاسع من أكتوبر 2024 أعلنت كوريا الشمالية أنها ستشرع في قطع كل الطرق والسكة الحديد التي تربطها بكوريا الجنوبية، مع التأكيد على بناء تحصينات دفاعية قوية، بما يؤدي إلى الفصل التام مع الجنوب، معتبرة أن ذلك بمثابة إجراء دفاعي في مواجهة الجنوب التي باتت تعتبره العدو الرئيسي والثابت. كما أنها اعتبرت هذه الإجراءات بمثابة رد على ما وصفته بالوضع العسكري الحاد في شبه الجزيرة الكورية. هذه الطرق والسكة الحديد جرى الاتفاق على تأهيلها وتشغيلها في فترات التقارب بين الكوريتين والتي بدأت بأول قمة بينهما منتصف العام 2000 وانتهت بقمة سبتمبر 2018. وبينهما قمة العام 2007 ثم قمة أبريل 2018. ما الذي دفع كوريا الشمالية الى اتخاذ هذا القرار؟

من وجهة نظر بيونج يانج لم يعد من المجدي السير في طريق التقارب والوحدة مع طرف يناصبها العداء ولا يترك وسيلة للضغط عليها إلا واستعملها، فضلاً عما تعتبره بيونج يانج إخلالاً بالاتفاقات الثنائية الموقعة وعلى رأسها اتفاق خفض التوتر الذي علقه الجنوب جزئياً ثم كلياً. وتزيد بيونج يانج أن الجنوب لا يدخر جهداً في تكثيف المناورات مع الولايات المتحدة والتي لا تخفي استهدافها للشمال. ومؤخراً دخلت اليابان بكثافة في المناورات مع واشنطن وسول وهو أمر غير معتاد، وتراه بيونج يانج مستهدفاً إياها. ومن ثم فإنها تنظر إلى تلك المناورات على أنها تأتي ضمن الاستراتيجية الأمريكية للهيمنة العالمية، واحتواء الدول ذات السيادة. كما أنها تعبر بوضوح عن تحالف عسكري بين واشنطن وسول وطوكيو فيما تعتبره بيونج يانج نسخة آسيوية من الناتو. وأن هذا التحالف أداة حرب وعدوان. وأن سياسة الولايات المتحدة وحلفائها تهدد السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية.

وهنا ملحوظتان: أولاهما تتمثل في الحساسية الكورية الشمالية الزائدة من المناورات، وهو ما أدركته إدارة الرئيس مون جي ـ إن 2017 – 2022 ووافقتها عليه واشنطن التي كان رئيسها دونالد ترامب قد تحول من ممارسة أقصى درجات الضغط على بيونج يانج إلى سياسة الحوار غير المشروط، والذي وصل إلى عقد قمتين مع كيم جونج أون في سنغافورة وفيتنام عامي 2018و2019. وهكذا انقلب التلاسن العلني القاسي بين الرجلين إلى مديح متبادل. المهم إن كلاً من سول وواشنطن قد قللا من مستويات الكثير من المناورات العسكرية التي تجرى بشكل دوري على مدار عقود مراعاة لحساسية بيونج يانج وحرصا على أن يستمر الحوار والتقارب. الملحوظة الثانية تتعلق بأنه في الوقت الذي تلوم فيه بيونج يانج سول وحلفائها على ما يتخذوه من إجراءات حيالها فإنها تلام من قبل هؤلاء على أكثر من صعيد أيضاً. ومن ذلك أنها من بدأت بخرق اتفاق خفض التوتر، وهي من قامت بنسف مكتب الاتصال المشترك بين الجانبين في كايسونج. وأنها من صادرت معدات المجمع الصناعي في نفس المدينة. وهي من تقوم بخرق نظام العقوبات الدولية والتحايل عليه. كما أنها مستمرة في دعم ترسانتها العسكرية بما في ذلك الأسلحة النووية ووسائل إيصالها. ناهيك عن أنها قد تخلت تماماً عن أي مفاوضات بخصوص ترسانتها النووية. وأقرت من الناحية القانونية والدستورية وضعها كدولة نووية. ولا تكف عن التهديد باللجوء إلى استخدام تلك الأسلحة طالما كانت سيادتها وأمنها ونظامها موضع تهديد.

لم يأت القرار مفاجئاً، حيث سبقه نزع أعمدة الإنارة من الطرق وزرع الألغام. فضلاً عن العودة إلى بناء تحصينات. كل هذا في إطار التحول الاستراتيجي عن التقارب والوحدة مع الجنوب إلى القطيعة التامة باعتبار الجنوب دولة معادية تماماً. ومن ثم شرعت في تفكيك المؤسسات التي كانت تقوم على رعاية العلاقات مع الجنوب. وقد وجه كيم جونج أون بتكريس تعريف العلاقات بين الكوريتين على أنها علاقات بين دولتين متعاديتين في الدستور. وعلى الأرجح هو ما تم في الاجتماع الأخير لمجلس الشعب الأعلى في شهر أكتوبر الحالي.

وبينما تسير الأمور على النحو المشار إليه، اتهمت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية بأنها قد أرسلت مسيرات تحمل منشورات تحريضية إلى سماء عاصمتها بيونج يانج ثلاث مرات في شهر أكتوبر 2024. وبينما وصفت كوريا الشمالية تلك المنشورات بالقمامة السياسية كانت تقوم هي بإرسال بالونات القمامة على مدار أشهر إلى الجنوب. وقد تجاوز عدد هذه البالونات الستة آلاف. وقد سقط بعضها مرتين في المقر الرئاسي في سول.

يلاحظ على الخطاب التصعيدي المتبادل بين الكوريتين أن كلاً منهما يهدد الآخر بالدمار والفناء في حال فكر في العدوان. وهنا فإن بيونج يانج دائماً ما تذكر بأنها دولة نووية وإن قدراتها النووية جاهزة للاستخدام. كما أنها لا تكتفي بتوجيه خطابها إلى سول بل توجهه إلى واشنطن أيضاً باعتبارها حليفة راعية ومحرضة لسول من وجهة نظر بيونج يانج. وبالطبع فإن سول وواشنطن يتحدثون عن الردع الاستراتيجي ولا تكاد تغادر غواصة نووية أو حاملة طائرات مياه كوريا الجنوبية حتى يأتي بديل لها. ناهيك طلعات القاذفات الاستراتيجية الأمريكية المتواصلة.
القطيعة بين الكوريتين في ظل الاستقطاب الدولي

تأتي هذه التطورات على صعيد العلاقات بين الكوريتين في ظل حالة من الاستقطاب الدولي على أكثر من صعيد. والأطراف الرئيسية لهذا الاستقطاب الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، وكل من روسيا والصين والمقربين منهما وعلى رأسهم كوريا الشمالية من ناحية أخرى. وهنا تبرز مساجلات في مجالات كثيرة من بينها طبيعة النظام الدولي القائم والمرجو. والمناظرة الرئيسية تدور حول مفهومي النظام الدولي القائم على القواعد الذي تتحدث عنه واشنطن وحلفائها، معتبرة أن كلاً من روسيا والصين وكوريا الشمالية وغيرها من الدول من أهم مهدداته. في المقابل تطالب موسكو وبكين وبيونج يانج ودول أخرى بنظام دولي أساسه القانون الدولي وفي القلب منه ميثاق الأمم المتحدة. وأن يكون هذا النظام أكثر عدالة وإنصافاً.

تحت مظلة الخلاف حول طبيعة النظام الدولي تأتي قضايا السيادة وحقوق الإنسان، وأنماط التنمية، وحرية الملاحة البحرية والجوية، والأمن والاستقرار، واحترام مصالح ومخاوف الدول الأخرى عند الإقدام على تصرفات بعينها. ومن ثم تبرز مصطلحات من قبيل الهيمنة والحرب الباردة الجديدة وفخ الديون. كما أنه قد برزت استراتيجيات خلقت مسميات جديدة من قبيل المحيطين الهندي والهادي مقابل آسيا والمحيط الهادي.

المثال الأبرز للاستقطاب الدولي في الوقت الراهن والذي ينعكس على التطورات في شبه الجزيرة الكورية يتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية. وبعيداً عن الدخول في تفاصيل تطورات تلك الحرب يتم التركيز هنا على مواقف كل من الكوريتين من تلك الحرب. ومن ثم انعكاسات تلك المواقف. منذ البداية انحازت كوريا الشمالية لكل الرواية الروسية، ومن ثم أيدت كل ما قامت به روسيا من إجراءات، بما في ذلك ضم أقاليم أوكرانية. واتساقاً مع ذلك كانت من بين دول قليلة تعارض القرارات التي تصدرها الجمعية العامة للأمم المتحدة في إدانة روسيا. في المقابل فإن كوريا الجنوبية كانت من بين الدول التي أدانت السلوك الروسي منذ بداية الحرب. ومن ثم فإنها كانت من بين الدول التي فرضت عقوبات على روسيا، كما أنها قامت بتقديم مساعدات إلى أوكرانيا، وإن كانت قد تمسكت بأن لا يكون من بين هذه المساعدات أسلحة فتاكة تقدم لأوكرانيا بشكل مباشر.

ويبدو أن هذا الموقف الكوري الجنوبي قد يتغير وتتحول إلى تقديم تلك الأسلحة وبشكل مباشر إلى أوكرانيا على ضوء التطورات المتسارعة على صعيد العلاقات بين كوريا الشمالية وروسيا. والتي لم تقف عند حدود الزيارات المتبادلة الكثيفة بما في ذلك الزيارات الرئاسية، وإنما وصل الأمر إلى توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة تتضمن بنوداً خاصة بتقديم المساعدة العاجلة في حال تعرض أي من الطرفين إلى عدوان. وقد صدقت روسيا في الرابع والعشرين من أكتوبر 2024 على الاتفاقية. كما أن كلاً من سول وواشنطن قد أكدتا على إرسال بيونج يانج قوات إلى روسيا من أجل المشاركة في العمليات العسكرية في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن كوريا الشمالية قد اعتبرت أن الأمر لا يعدو أن يكون في نطاق الإشاعات التي لا أساس لها من الصحة، فإن الرئيس بوتين قد اعتبر أن أمر التعاون العسكري مع بيونج يانج يخص الطرفين فقط.

الأمر لا يتعلق فقط بمسألة إرسال القوات الكورية الشمالية إلى روسيا، وإنما يتضمن كذلك إرسال معدات وذخائر للمساعدة في المجهود الحربي الروسي. وكذلك تلقى كوريا الشمالية مساعدات فنية في برامجها التسليحية والفضائية. كما أن روسيا كانت قد استخدمت حق النقض في مجلس الأمن لتعطيل آلية مراقبة نظام العقوبات المفروضة من قبل المجلس على كوريا الشمالية على خلفية براامجها التسليحية غير التقليدية. وهنا فإن واشنطن وحلفاء لها يحاولون العمل على خلق آلية مشتركة بينهم لا تحتاج لموافقة مجلس الأمن من أجل استمرار العمل في مراقبة نظام العقوبات، وهو ما تحذر منه كوريا الشمالية. وبطبيعة الحال فإنه استناداً إلى مواقف مبدئية لن تعترف به كل من موسكو وبكين.
هل تندلع الحرب في شبه الجزيرة الكورية؟

بداية ينبغي التأكيد على أن الحرب الكورية 1950 ـ 1953 قد انتهت باتفاق هدنة وليس باتفاقية سلام، وأن كلاً ما طرح من محاولات لإقامة نظام سلام في شبه الجزيرة الكورية لم ينجح، وكان آخرها المبادرة التي طرحها الرئيس السابق مون جي ـ إن. ومن ثم فإن العلاقات بين الكوريتين ظلت طوال هذه العقود تشهد توترات تتصاعد لتقترب من نقطة الصدام العسكري، ومن ثم يتم نزع فتيل الأزمة حتى وإن حدثت بعض الاشتباكات بحرية كانت أو بالمدفعية. لكن طوال هذه العقود ومع حدوث كل هذه التوترات ظل الطرفان يعلنان عن التمسك بتحقيق الهدف الأسمى ممثلاً في توحيد شبه الجزيرة الكورية. وكان لكل طرف طروحاته حول هذه القضية، كما كانت لدى كل طرف مؤسسات وهياكل من المفترض أنها تعمل على تحقيق هذا الهدف. أما في الوقت الراهن فقد وصل أحد الطرفين إلى قناعة تامة بعدم جدوى الاستمرار في مسعى تحقيق الوحدة مصنفاً الطرف الآخر بأنه العدو الرئيسي. وبالمناسبة فإن الجنوب أيضاً كان يصنف الشمال على أنه مصدر تهديد رئيسي لسنوات طويلة. وفي بعض سنوات التقارب كان يتم تخفيف التوصيف. لكن يظل الجنوب متخوفاً ليس فقط من أسلحة الشمال التقليدية وغير التقليدية وعلى رأسها النووية، وإنما أيضاً من الأيديولوجية السائدة في الشمال. هذه الأيديولوجية هي التي تقف وراء كل التعنت الكوري الشمالي تجاه ما يطرح في الجنوب من مبادرات لتقديم المساعدات له أو حتى تحقيق الوحدة. ومن ذلك ما طرحة الرئيس الحالي يون سيوك ـ يول. فيما أطلق عليه المبادرة الجريئة في أغسطس 2022، ثم صيغته للوحدة التي طرحها في أغسطس 2024 القائمة على الحرية والديمقراطية. وفي كلتا المبادرتين فإن التخلي عن السلاح النووي من قبل الشمال شرط قائم. وإذا كانت بيونج يانج قد ردت بالرفض الصريح للمبادرة الأولى فإنها لم ترد على المبادرة الثانية مباشرة، وإن كانت كل إجراءاتها تعبر عن موقفها.

هل يعني هذا الجو العدائي في شبه الجزيرة الكورية، وحالة الاستقطاب الدولي الذهاب مباشرة إلى فرضية اندلاع الحرب؟. في الواقع فإنه رغم لهجة التهديد الحادة بين الطرفين المباشرين إلا أن ثمة مؤشرات على أن أياً منهما لا يريد للأمور أن تصل إلى الحرب. ومن ثم فإن هذا التلاسن، وحتى الإجراءات التي تتم ما هي إلا وسائل للردع. ويمكن رصد مؤشرات على ذلك من بينها على سبيل المثال أن كوريا الشمالية عندما أصدرت قرارها القاضي بقطع الطرق مع الجنوب فإنها قد قامت بإبلاغ الجانب الأمريكي “لمنع أي سوء تقدير ووقوع نزاع غير مقصود”. إذن فهي لا تريد الحرب، ومن ثم فلا تريد أن تفسر إجراءاتها على نحو يؤدي إلى اندلاع الحرب حتى ولو بطريقة غير مقصودة. وفي قرارها أيضاً لم تكتف بأن إجراءاتها دفاعية بحتة، وإنما اعتبرتها وسيلة لمنع الحرب. وعلى الطرف الآخر فإن الجنوب ما زال يأمل في الحوار مع الشمال، كما أن واشنطن مستمرة في البحث عن الحوار مع بيونج يانج وبدون شروط. وربما كان تلويج كوريا الشمالية الدائم بكونها دولة نووية عندما تخاطب الأطراف التي تهددها هو لمنع الحرب وليس نشوبها.

تدرك جميع الأطراف أن اندلاع الحرب سيجلب خسائر صافية لها، كما أن الحرب قد تطول، ومازالت تجربة الحرب الكورية الأولى ماثلة، ناهيك عن إمكانية تحول الأمر إلى حرب استنزاف طويلة. إذا كانت كل الأطراف لا تريد الحرب الشاملة والطويلة وإن أبدت استعدادها لها، فإن ذلك لا يمنع احتمالية وقوع اشتباكات متقطعة من آن إلى آخر. وعلى الأغلب إذا وقعت مثل هذه الاشتباكات فسيكون هناك مساع لتطويقها. ورغم كل ذلك تبقى احتمالية الصراع المسلح الشامل والطويل والمتعدد الأطراف قائمة حتى وإن كانت ضئيلة جداً.

السيد صدقي عابدين – باحث في العلوم السياسية – متخصص في الشئون الآسيوية
بوابة الأهرام اليوم
2022 637819194309418185 941 main