تحقيقات وتقارير

تفاصيل وأسرار جديدة حول معركة المقرن .. العبور من الجسر إلى السماء “2”

ارتطمت رصاصة أيه كيه أم بجسر الحزم الصلب، مُحدثة دوياً كرنين الفضة، كان ذلك فجر الخميس، الخميس المشحون بالمفاجآت العسكرية، حينها أدرك فتى غاضبون أنه ذاهبُ بلا رجعة، وقد دارت تحت ضغط الصوت المهول عربات الساقية في المتنزه القديم، رأى طه كمال موقع السجدة التي سَيخلُد إليها، مرة واحدة وإلى الأبد، كما رآها في أحلامه الباكرة، وهو اليوم، في هذا العبور الآخير رمق وجه أمه ينسل من وراء الأمواج الزرقاء، أمه التي يحبها بجنون كما يحب بلده، ولا يريد أن يضن عليهما بروحه لتحيا كريمة، أمه وبلده معاً.

IMG 20241016 WA0008.jpg

السلاسل الحديدية

في ثُكنة عسكرية ليست بعيدة نُصبت طاولة من الرمل على مائدة خشبية عتيقة، بدا فيها جسر الفتيحاب أشبه بالمجسم الذي يتعامل معه طلاب كلية الهندسة، يبلغ طوله 4400 متراً، وينتهي الجسر في كل من أم درمان والخرطوم بتقاطعات مرورية، عدد القناصة في عمارة زين يقارب السبعة، وربما كانت هنالك ألغام مزروعة أسفل الجسر، أو عند القنطرة التي ترتفع إلى 4 أمتار، إمكانية التعامل مع نيران العدو غير المرئي تبدو صعيبة، كل المصاعب التي تخيلها قادة عمليات الجيش، ذلك المارد المتحفز للزحف والانقضاض.

هذه المنطقة شديدة الأهمية للدعم السريع، ويتحصن فيها صفوة النخبة المقاتلة مع خليط من المرتزقة المدربين على حرب المُدن، وهو ما قاد المتمرد عثمان عمليات لتوجيه قواته هنالك بتقوية محور المقرن، وإحكام المداخل كلها، وقد أغلق جنوده شرق الجسر الأبيض بجولات مكتنزة بالرمل، إلى جانب أنقاض السيارات المنهوبة، كما نُصبت مدفعية عالية النيران في غابة السنط، وترى أيضاً مُدرعة رابضة عند مبنى الاستراتيجية بأبوابه الحديدية المخلوعة، أما كلية البيان فقد احتلتها كتيبة من أولاد الماهرية الذين وسمتهم النعمة، يتنقلون في الليل منها إلى مبنى شركة زين والبنك المركزي، وتطل من نوافذ البرج العملاق بنادق القنص المصوبة ناحية أم درمان، فيما أوكل إلى الدكتور المتمرد لتوه يوسف مخير – أستاذ القانون الدولي بجامعة النيلين – أمر المنطقة، وقد جرفته نزواته الصغيرة إلى الانخراط في صفوف الميليشيا، وتحويل الجامعات إلى ثُكنات عسكرية، مدفوعاً بضغينة مُصطنعة لم تكن ظاهرة عليه أول الأمر، عاد أقرب إلى مجموعة ياجوج وماجوج المتخفية في جزيرة توتي، بينما – وذلك هو الأهم – أن استراتيجية قوات التمرد في منطقة المقرن كانت تقوم على الاحتفاظ برؤوس الجسور، حتى ولو بقى نصرهم مؤقتاً، أو على الأقل نقل منطقة المقرن إلى وضعية استنزاف مستمرة لقوات الجيش، لكنهم فوجئوا بالسلاسل الحديدية للقوات الخاصة وهيئة العمليات وهي تتسرب كالدخان من بين أيديهم ومن خلفهم، فيما رماهم لواء البراء بفتيان يحبون الموت كما يحب آل دقلو الحياة.

IMG 20241016 WA0009.jpg

مجموعة الـ(18) فدائي

قبيل ساعات من استشهاده، كان العقيد إبراهيم حسين يحتسي القهوة تحت ظل شجرة وارفة في العاصمة القديمة، تتسع بقايا الفنجان إلى دوائر صغيرة، سرعان ما تتحول إلى غرابيب سود، تلتقط أذنه أصوات جوقة سلاح الموسيقى وهى تعزف ذلك المارش العسكري الذي طالما تعلق به: “ود الشريف رايو كمل، رايو كمل.. جيبو لي شالايتو من دار قِمر”، تفيض عيونه بالذكريات وعظمة البيت الذي لن يراه بعد اليوم، بيته القديم في دار قِمر، لكنه لا يزال يسيطر على انفعالاته وهو يضع خبرته العسكرية كلها تحت طوع أمته، ثم ينسل في الفجر ضمن مجموعة الـ(18) فدائي، سيرحل منهم أربعة وينجو البقية، أولئك الذين وهبوا حياتهم لخلاص الشعب السوداني، إذ أن لحظة العبور تعني نهاية أسطورة الجنجويد، وتحطيم المشانق التي خنقت مقرن النيلين في الخرطوم، كما أن الدخول عليهم من هذا الباب يعني كسر الحصار وأنهم غالبون، قالها ود راشد في سره، وهو يتأبط جهاز اللاسلكي، ويقارب ملاءمة الخطة لظروف المعركة المواتية ومدى تحقيقها للأهداف والنهايات المطلوبة، وفي خاطره المحتشد بالمعارك رغبة عارمة في السيطرة على جسر الفتيحاب تحديداً وتحقيق عُنصر المُفاجأة، لكنه أيضاً ويا للهول سيتعرض إلى نيران مفتوحة في مواجهة عدو متحصن بغابات الأسمنت، وربما تصلح كمناورة للعبور من أبواب أخرى، ووضع قوات التمرد في حيز ضيق من خلال التطبيق المرن للقوة القتالية.

IMG 20241016 WA0005.jpg

الشهيد المُغامر

يجاهد الفدائي محمد الضو للحاق بالطليعة الأولى من أشباح الليل، لقد سعى للشهادة وهو يطلبها حثيثا، كان أمضى جَناناً في أيامه الآخيرة، أبَت نَفسهُ الدَّنيةَ، ولقى ربه على الجانب الأيمن من مسجد الشهيد، فمات هنالك ميتة تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ، بلا منٍ يحب ود الضو عبور كافة طرق المغامرة، مأخوذاً بسيرة الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، الذي اختاره النبي صل الله عليه وسلم ليجس لهم خبر العدو في غزوة الأحزاب، وقد اشتد على الصحابة البرد والخوف، وكان المنافقون يستأذنون النبي ويقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، وكان ود الضو كذلك غير هيّاب، يقود سيارته لوحده ويخترق صفوف الأعداء، يجلب المؤمن للجيش في المواقع المأزومة، ويمر بارتكازات التمرد، وفي واحدة منها بالسوق الشعبي، وذلك عندما أوقفه ضابط الميليشيا وحاول فحص هويته، فسايسه ود الضو وحمله معه على متن حافلته الصغيرة، تنحى به جانباً، وقام بقتله ورمى جثته في العراء، بعدها كدأبه في خوض غِمار المهام الخطيرة قاد ذلك الجرار الذي فتح به الطريق بين كرري وسلاح المهندسين، من فتيح للخور للمغالق، وكان إلى جانب الشهيد الرائد لقمان بابكر، وهو يحمل ثلاثمائة جوال دقيق إلى القوات المحاصرة في السلاح الموسوم بتكساس، هكذا هو بطل مجموعة الإسناد الخاصة، وقبل العبور الآخير تسلل إلى جزيرة توتي في مهمة استطلاعية، وقطع النيل سباحة جيئة وذهابا، وتمكن من اختراق صفوف العدو دون أن يحدث في القوم شيئا، كما فعلها بن اليمان، ولعل ذلك المشهد المُدهش داخل السيارة حين توسط سيادته معتصم وعمر كان يتدفق بالفتوحات الربانية، حتى أنه سمى نفسه الشهيد ود الضو، كما لو أنه كان يحس بدنو أجله، أو رآى قبره عند المحراب في مسجد الشهيد.

IMG 20241016 WA0010.jpg

مناورة الملاكمة

في معركة المقرن اعتمد الجيش خطة متناقضة لا تتبع نمطاً خطياً، كان يعلم أن المسافة تقاس بالأمتار، كل موقع يكتسب أهمية خاصة، وذلك بموازاة التحصين الهيكلي الذي يوفر حماية دائمة للعدو، وقد حدثت بالفعل مناورة الملاكمة عند جسر الفتيحاب، والتي نتج عنها هجومٌ من جميع الجوانب في وقت واحد، وضربات انقضاضية خاطفة، فالجيش هنا يملك ميزة التفوق الجوي، ويملك قوة بشرية فدائية نجحت في السيطرة على الأهداف دون رجعة، كما حدث في برج زين والهيلتون، هجمات سريعة وقصيرة وقوية، سبقتها سحابة من الغاز المسيل للدموع، أخرجت الجرذان من جحورها.

بزغ فجر الخميس دافئاً بلا مطر، وعند منتصف الجسر صقع ضابط الإشارة برسالة الملازم أول حربي ” زيرو واحد إلى زيرو إثنين، حول .. أنا مصاب في النقطة إكس وأطلب الإخلاء”، وهو إذاك حاول التسلل إلى الضفة الأخرى ليقوم بإخلاء رفيقه، لكن قيادة العمليات التي كانت تتابع تفاصيل المعركة أدركت خطورة الموقف، منعته من التحرك، كانت تراقب فوهات بنادق القنص ومنصات الكورنيت، وعندما تحرك الشهيد باتجاه الروابي كان أمر الله قدراً مقدورا.

جري دنقاس

فجر الجمعة الجامعة كانت (ملكة الرِق) تحاول الوصول إلى شاعرها المُفضل، ما يجري من ملحمة بطولية جدير بالمدح، وهى من يومها شديدة الفخر بجيش بلادها، تنفجر سماعة الهاتف بضحكة مجلجلة بين ميادة قمر الدين وهيثم عباس، أين قوات الطقيق يا ميادة؟ تبتسم وتجيبه بسخرية لاذعة: عردو، أو سمّهِ (جري دنقاس) حالة الجسور تغني عن القوافي “قفلنا الكباري وما خابر الضهاري”.

IMG 20241016 WA0007.jpg

وبينما لا تزال المعركة محتدمة، يتلألأ وجه العريف النور تحت وميض خيوط الفجر، وعلى ما يبدو هو الآخر قد أصيب، لكنه لن يتراجع، ثمة دخانُ كثيف خلف معترك اليوم الثاني للعبور، وهى الشدة التي تجلى فيها الملازم أول متوكل الحاج، ولا عجب أن آخر عبارة وضعها متوكل على خاصية حالة الواتس آب “توكلنا على الله”، قبل ذلك بساعات قليلة أيضاً، تحديداً ليلة 25 سبتمبر طلب أمه بالهاتف، أسرّ إليها بما يعتمل في قلبه طالباً رضاها، ثم تحدث إلى جميع أفراد الأسرة، وبعد أن أغلق الهاتف، سلم مفتاح سيارته إلى دفعته، وكذلك وصيته الآخيرة.

نواصل..

المحقق – عزمي عبد الرازق