مداخل منهاجية حول الأحداث التي تمر بها الأمة المسلمة
نائب رئيس اتّحاد علماء المسلمين، ورئيس مركز الفكر الإسلاميّ والدّراسات المعاصرة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيّد المرسلين نبيّنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد،،،
إنّ ما تَمُرُّ به أمّتنا اليوم من مُلِمَّاتٍ ومصاعب غير مسبوقةٍ يجعل واجبَ الوقتِ على العلماء والحكماء التصدّي لبيان الحكم الشرعيّ ومقاصده للأمّة، بناءً على المسؤوليّة التي يتحمّلونها في أعناقهم بمُقتَضى قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وذلك بما يُفضي لتحقيق شهود الأمّة والانتقال بها من المراقبة والفعل التَّرَقُّبِيِّ إلى المبادرة والفعل الحضاريِّ.
وإنّ الناظر إلى الأزمة اليوم يدرك حجم الالتباس والاشتباه الذي حصل في كثيرٍ من المواقف التي لا تزال قائمة حتى اللحظة، ومن هنا وجب تقديم رؤيةٍ شرعيَّةٍ عميقةٍ تراعي مناهج العلماء المحقّقين بضبط قراءة المشهد بتفاعلاته، وانعكاساته، وعلاقاته المتشعّبة في ضوء التهديد الصهيونيِّ الذي يستهدف الوجود الحضاريِّ للأمَّةِ؛ عقيدةً، وهويَّةً، وقِيَمًا، بعيدًا عن القراءات المتسرّعة المشوبة بالعاطفة.
وهذه مداخل منهاجية في التعامل مع هذه النازلة الكبرى:
أولًا: يلزمنا في فاتحة البيان أن نؤكّد على أنّ القراءات الشرعيَّةِ المنضبطةِ إنّما تنطلق من الأصول الكلِّيَّةِ، والقواعد الجامعة التي يتضمنُّها الخطابُ الشرعيّ.
ثانيًا: إنّ نظر العلماء الصّادقين في تفكيك التّحديات والفتن التي تعصف بالأمّة اليوم والتّعرف على عناصرها لا بدّ أن يأخذ حقّه من التأصيل والتنزيل؛ لأنّ تأثيراتها لا تقف عند المتلبّسين بها، بل باتت تسع العالم الإسلاميّ كلّه، بل البشريّة بأسرها لو عُمم نموذجها الجارف، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، إنّ هذا الخطر العامّ والشامل يستدعي أن يتصدّى المسلمون له في سياق الكلمة الواحدة الجامعة على مقتضى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، فغياب الكلمة الجامعة معناه اضطراب الأحوال، واختلال النظام، واستحكام التنازع والتفرّق المفضي إلى الفشل وذهاب الرّيح، والانشغال بالخلاف الجزئيّ يُضيِّعُ الأبعاد الكُلِّية في الأمّة. وإنّ الجماعة قَسيمُ السُّنَّة في تحديد هويَّةِ أهل السُّنَّة والجماعة، وإنّ طلب الجماعة في المعارك المصيريّة خاصَّةً هو سمة أهل السُّنَّة.
ثالثًا: إنَّنا اليوم أمام لحظةٍ تاريخيَّةٍ يَستَقوي فيها العدوّ الصهيونيّ ويبغي إعادة تشكيل الشّرق الأوسَطِ تُؤازِرُه في ذلك معظم القوى الغربيّة، الأمر الذي يفرض تحدّيات حضاريّة ووجوديّة جديدة على قاطني هذه المنطقة بكل مكوِّناتِهِم، كما يفرض عليهم تأجيل خلافاتِهِم البينيَّة قيامًا بمقتضيات الأولويّات في الدّفاع الشرعيّ والمدافعة الحضاريّة، وكلاهما يؤكّدان وجوب التَّفاكُر والتَّداعي لبحث الخطر الدّاهم الذي يصاحبه تواطُؤٌ من بعض الأنظمة، وسكوتٌ من أنظمةٍ أخرى، ولمثل هذه المُلِمَّات يضع النّاس ثقتهم في العلماء بوصفهم أصحابَ الولايةِ حين يغيب رُعاة مصالح الأمَّة من القادة والزُّعَماء.
رابعًا: بِحُكم ما شَهِدَه الحدث من قِراءاتٍ تَعَسُّفيَّةٍ غلبت عليها العاطفة والنّظر الجزئيّ الضيّق يلزم تقديم رؤيةٍ كلّيَّةٍ جامعةٍ في سياق فقه الموازنات والنظر المصلحيّ الضابط الذي يُراعي فقه الواقع، وفقه المآلات، وفقه المقاصد، فإنّ الأخذ بمقتضى هذه الأنواع من الفقه يترتّب عليه الفهم العميق، والتّنزيل الدّقيق، وهذا الذي يشهد له قوله تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وهذا الفقه وحده ما يعصم من هَنات بعض المُتَصَدِّين للدّعوة في العمل الإسلاميّ الذين يُحسنون الإسقاط دون تقديم البدائل والسّياسات. وإنّه من السّهل الدّعاء بهلاك الظّالم على يد الظّالم، ولكن المسؤوليّة تقتضي تعظيم المصالح وتقليل المفاسد، وبناء المُشتركات بناءً على سُنَن الحركة والفاعليّة، ومن أظهَرِها أنّ الواقع لا يقبل الفراغ.
خامسًا: من خوارِم الرّؤية الكلّيَّة النّظر إلى المشهد في سياق منهجيّة التّعضِيَة والتّجزيء والتّبعيض، فضلًا عن التّهارج والتّخوين الذي حدث في المنصات الافتراضيّة المختلفة، وكلّها تجعل الأمّة في إطارٍ من التّشرذُم النّفسيِّ والاجتماعيّ، في وقتٍ يستدعي ضرورة اجتماعِ الكلمة بدفع الأَخطَر فالأَخطَر من المفاسد عن الأمّة، وإنّ المنهج الإسلامي يقتضي تقويم الأفراد والجماعات بحسب ما فيهم من خيرٍ وشرٍّ تارةً كما هو نهج المحدّثين، أو بحسب انفكاك الجهة كما هو نهج الأصوليّين.
سادسًا: مقتضى هذا النّظر الشرعيّ التأصيليّ اجتماع كلمة الأمّة على مواجهة الكيان الصهيونيّ ومدافعته والتّصدي لمشروعه، وتجاوز كلّ أسباب التّنازع والافتراق، وهذا يتحقّق بنُصرة المظلوم من طوائف المسلمين كلّهم، مع تجريمِنا لما وقع من ظلم فادحٍ، وقتل شائِه، وتدمير مُمَنهج لإخواننا في الشّام والعراق واليمن، إلّا أنّ الكلمة اليوم تستوجبُ تأجيل هذه الإشكالات دون إسقاطها وترحيلها إلى وقت الاختيار، أمّا وقت الضّرورة فإنّ مواجهة الكيان الصهيونيّ متحتّمة في تجميع كلّ الطّاقات والقدرات لدحره وإبطال مشروعه.
وفي الختام:
فلا يخفى أنّ الخلاف المبنيّ على الاجتهاد إذا تحوّلت آراؤه إلى ولاءات خاصّة، وتحزّبات طائفيّة ومناطقيّة، وتفريغات نفسيّة، فإنّه يخرج بذلك عن كونه رحمةً ليكون تمزيقًا لأهل الإسلام، واتّباعًا لطريق أهل الكتاب الذين انحرفوا عن هدي الأنبياء والمرسلين، وبهذا تظهر خطورة الانفِصام والاستقطاب الحادّ الذي تشهده الأمّة اليوم بما يستلزم نفرة عُلَمائِيَّة جامعة تقول كلمتها في مواجهة هذه النّازلة الكبرى.
وفي هذا السّياق نرغب بتأكيد جملةٍ من الحقائق ملخّصة مختصرة:
تتبوَّأ القضيّة الفلسطينيّة ومقاومة العدوّ الصهيونيّ بكلّ مُمكن مُتاح قضايا الأمّة المعاصرة، وبالنّظر إلى أبعادها الدّينيّة والحضاريّة، وعظيم تبعاتها على بقاء الأمّة ومستقبلها ومصيرها، وهذا محلّ إجماع أهل الحلّ والعقد فيها من العلماء والقادة الصّادقين.
وبناءً على ذلك ينبغي التّرحيب بكلّ جهدٍ يقاوم الاحتلالَ ويدافع قُوَّتَه الغاشمة، بناءً على مبدأ التّعاون على البرّ والتّقوى، والتّحالف على سنن حلف الفضول، دون أن ينفي تقرير هذه الحقيقة الاختلاف الفكريّ أو العقديّ، ودون أن يرفع الملامة ويلغي المحاسبة على الجرائم الطائفيّة التي خلفت آلامًا وجراحًا ومفاسد في سوريا والعراق واليمن، إذ إنّ جراح الأمّة واحدة، وقضاياها مترابطة.
كما تفرض هذه اللّحظة تعظيم المشتركات على مستوى الخطاب والسعي بمعالجة علل الطّائفيّة التي يستثمر فيها أعداء الأمّة ويسعون لتأجيجِها، وهذا الأمر ممكن إذا حَسُنت النّوايا، وهو واجبٌ كي لا يستفرد العدوّ الصهيونيّ بمكوّنات الأمّة واحدًا تلو الآخر.
وعلينا أن نتعامل مع المسألة الطائفيّة بوصفها مرضًا يستلزم العلاج ولا نستسلم لبقائها دوّامةَ صراعٍ يستنزف طاقة الأمّة فيما لا طائل من ورائه
وإذا نظرنا إلى مآلات ما يجري فإن انكسار المقاومة – لا قدّر الله – يؤول إلى أن يعربد المشروع الصهيونيّ في ربوع الأمّة وحواضرها الكبرى دون رادع.
ممّا يستوجب حشد ما يمكن من جهود الأمّة لدفعه وردعه، وهذا يمثل واجبًا أعلى يُقَدَّم على غيره من الاعتبارات، والله الهادي إلى سواء السّبيل.
بقلم/ أ.د. عصام أحمد البشير