🔴 العبور من الجسر إلى السماء.. كيف قاد الشهيد إبراهيم حسين أخطر معركة في منطقة المقرن ؟ “1”
المحقق – عزمي عبد الرازق
أصوت المدافع التي انطلقت بعنف فجر الخميس أيقظت سكان جزيرة توتي وأحياء أم درمان القديمة، وميض المسيّرات يبدو كالشهب الحارقة، رجوماً للجنجويد، يحاكي صدى النيل نداء باولو سورِّنتينو لعشاق نابولي”يا ملاح الجندول خُذني إلى مقرن النيل”.
كان العقيد إبراهيم حسين راشد ساعتها قد وضع رأسه على مسندة من الصوف الخشِن، وهو إذ يراجع للمرة الأخيرة تفاصيل خطة الهجوم، تناول ثلاث تمرات، ثم نوى الصيام، كدأبه منذ أول يوم وطأت فيه أقدامه حرم الكلية الحربية، كان قبل 17 عاماً تقريباً، تحديداً في العاشر من مارس 1997، قادماً حينها من دار قِمر في أقاصى الغرب السوداني، ليضئ الفيضة على شرفات الدفعة (47)، وقد تجلت فيه سمات القيادة منذها.
المهمة الخطيرة
نحن الآن في يوم الخميس 26 سبتمبر، بداية الانفتاح الكبير، يرمق إبراهيم الشاطئ بعد أشهر من ملازمة الخطوط الأمامية، يضيق النيل في مكان ويتسع في مكان آخر، شأنه شأن الحياة تعطي بيد وتأخذ بالأخرى، كما وصفه الروائي الصالح، ثم يتأبط ود راشد رسماً بيانياً مخدوماً بالمعلومات الاستخباراتية و الإحداثيات حول منطقة القتال، الدغل الخانق، البنايات العالية، بنادق القناصة، النيران الكثيفة، الزمن الذي يستغرقه عبور الطليعة الأولى لجسري الفتيحاب والسلاح الطبي، بالتزامن معاً، كل شيء، كل شيء.. وبالرغم من خطورة المهمة، فهو عازم على بلوغها، ولو أدى ذلك إلى المخاطرة بحياته، كما أقسم يوم التخرُّج.
لقد اختار العقيد ركن إبراهيم حسين مجموعة الاقتحام بنفسه، وقام بتدريبهم جيداً، وهو يستحضر المقولة التي كان يرددها المهيب صدام حسين “عرق التدريب يقلل من دماء المعركة”، إذ يؤثر بدمه على بلده، دمه الأشد توهجاً، حينها وقبيل هنيهة من ساعة الصفر، كانت خطوات قائد سلاح المهندسين اللواء ركن ظافر عمر تكركر في الحصى، يلقي نظر أخيرة على ساعده الأيمن في معظم معارك أم درمان، شارع العرضة والإذاعة والتلفزيون، كذلك حي الدوحة، لطالما كان اللواء الظافر يدخره لحالِكات المعارك، وهو أحد رموز العمل الخاص في المدينة القديمة التي تغنى لها الخليل “ماهو عارف قدمو المِفارق”، كما أن إبراهيم ابن المدينة البعيدة كان أمَّة في الشجاعة، وهو يعلم أن نصفه الآخر الجميل ينتظره في كل دقيقة، وحتى الآن من هذه اللحظة المحتشدة بالنيران لا زال يترقب حضوره، ضحكته، ويحن إلى صوته الرخيم في تلاوة القرآن، وإبريق القهوة الذي يضع على رائحته خططه العسكرية العظيمة.
غير قابل للشراء
كثيراً ما حاول عبد الرحيم دقلو شراء ولاء العقيد إبراهيم حسين، أغراه بالذهب والدولار، ولكن هيهات، إبراهيم ليس له ثمن. لقد صهرت الكلية الحربية معدنه الوطني الأصيل، وهو مُذاك وإلى الرمق الآخير، رجل التكتيك بلا منازع والرياضي المطبوع، والمعلم بكلية القادة والأركان، ثم ترى أيضاً فارساً نبيلاً، أرسى من الجبال، يتقي الرمية ويشد على العدو، ولا يَضطَرِبُ قلبه لهول ما يلقى، ولذلك لم يستغرب قادته الكبار بتصديه للمهمة، تصميم وتنفيذ وقيادة معركة العبور بنفسه، فقد عوّد جنوده أن يكون أمامهم دائماً، بثباته يمنحهم الثبات، حتى لقى الله عند الجانب الشرقي من جسر الفتيحاب.
الوقت يمر ببطء، الساعة تجاوزت الثانية فجراً، وقد نجح إبراهيم في فتح ثغرة كبيرة في جسر أم درمان القديم، وكان قد راجع كل التفاصيل المتعلقة بهذا الجسر، والذي تم تشييده في عشرينيات القرن المنصرم، عبر شركة دورمان لونج، ويبلغ طوله 613 مترًا، كما يدعمه سبعة أزواج من الأعمدة المستديرة، وهو نفسه الجسر الذي كان خدم في بلاد المهاتما غاندي قبل أكثر من 90 عاماً تقريباً، ولذا فإن المعلم إبراهيم حسين يدرك جيداً أن هذا الجسر من الصعوبة أن تعبره آليات ثقيلة، ما يعني أنه يحتاج إلى وحدات من القوات الخاصة، المُدربة على حرب المدن، خفيفة الحركة، يمكنه أيضاً التعامل مع نيران العدو، والتسلل في جنح الليل، وسوف تعينه القوات البحرية لتأمين الضفة الآخرى، وهو ما نجح فيه بالفعل، لاحت أمام القوة الأولى التي أعدها لهذه المعركة الحامية شرفات الهيلتون العتيقة، أعمدة الدخان حجبت الفضاء والرؤية معاً، وقد حدد قائد الاقتحام الأهداف بدقة، وكذلك المواقع التي سوف تستقر فيها قواته، لقد كان مقداماً وجسوراً.
تضاريس المعركة
سوف تدور المعركة في تضاريس شديدة القسوة، غابات الأسمنت العالية تعيق الحركة، لأن ما لا يقل عن (12) مرفقاً حصيناً تحتضنه منطقة المقرن، تلك المنطقة الحاكمة، وهى كلها تتواجد فيها نخبة من قوات التمرد، يتأبطون بنادق القنص، يصوبون على صدور القادة على نحوٍ خاص، ما يلقي عليه مسؤولية كبرى للحفاظ على أرواح الضباط والجنود، إذ أن بصحبته 18 فدائياً نطقوا الشهادة قبل الاقتحام مباشرة، لأنهم يدركون خطورة المهمة، وهى مهمة لا بد منها، وقد استشهد منهم 4 أبطال في الموجة الأولى بقيادة إبراهيم، الذي لقى ربه مقبلاً غير مدبر، بعد أن فض بكارة التأمين الذي وضعه التمرد حول منطقة المقرن.
تقدم العقيد إبراهيم ومجموعة الفدائيين فوق الجسر الطويل، عبروا عبوراً عظيماً، كان يتلقى ذبذبات جهاز اللاسلكي الذي يحمله بيده اليسرى، وباليمنى سلاحه. من المهم تحييد نيران القناصة، ومباغتة صفوة القوة في معقل تواجدهم، لقد صفت أجسادهم من كثرة النوم تحت فحيح مكيفات الهواء، لأكثر من 18 شهراً تقريباً احتلوا هذه المواقع دون مقاومة، ولم يخوضوا أي معركة سوى اليوم، يقودهم من داخل الاستراتيجية (العقيد خلاء) حسن الترابي، الذي يتحرك في منطقة الخرطوم المركزية جيئة وذهابا، بحراسة محدودة وكادمول فوضوي يعصب به وجهه الأمرد.
الإشارة والنقطة الحاسمة
يخاطب العقيد ود راشد قواته بلهجة صاخبة “نحن لسنا مجموعة انتحارية، نحن فدائيون” تنفجر التكبيرة الأولى، يشد على يد رفاقه، بعد أن مّلكهم خطة الاقتحام المباشر، وتحديد محور القوة والحركة، ميدان المعركة الافتراضية، والمنطقة التي يجب توجيه جميع الطاقات نحوها، وهى نقطة حاسمة من المهم اكتسابها للتأثير على نتيجة الهجوم، مع الأخذ في الاعتبار وجود قوة ثابتة مرتكزة شرق الجسر، تزيد وتنقص أحياناً، ومع ذلك نجحوا في مباغتتها والقضاء عليها، ثم زحف الجيش القليل بسرعة مهولة لصناعة الطريق، بصفوف طولية، يحملون قطع مختلفة من الأسلحة، وفي المقدمة سيادته إبراهيم يتأبط جهاز اللاسلكي، تنطلق منه الإشارة “ظبي .. ظبي .. ظبي”، كان ساعتها قد تلقى الرصاصة الأولى وهو يزف البشرى، لكنه لم يتراجع، تحول جسدة إلى دريئة تذب الموت عن البقية، يرتفع الصوت الجريح “حوّل، حوّل.. لا تراجع إلى الإمام”، لم يخبرهم أنه مُصاب، فالهدف أهم من روحه، وهو هنا في هذه اللحظة شديدة الأهمية أراد استثمار النجاح، وكسر شوكة العدو، لقد رأى النصر بأم عينيه، ولاحت شرفات القصر الجمهوري، وأشجار اللبخ العملاقة التي جلبها الانجليز قبل مائة عام، وبعد أن أطمئن على نجاح المهمة سلم جهازه لنائبه ضمن الأربعة الذين عبروا، لتلحق بهم الموجة الثانية، وقد لاحت الخرطوم بكل تاريخها وأمجادها، لتحتضن أشجع الفرسان.
تنهد إبراهيم تنهيدة عميقة، ثم نطق الشهادتين وهو مبتسم كما لو أنه رأى روحه ورفاقه الثلاثة تحلق في أجوافِ طيْرٍ خُضْرٍ، هنالك في أعالي الجنان، يا سبحان الله، كيف غاصت الرصاصة فوق مصحف داخل حقيبة المرتب الحربي، لتغتسل بالدم الطاهر، وتستقر في ذلك الجسد النحيف؟
نواصل