سيادة السودان وميزانية الإيغاد
منظمة الإيغاد يتعين عليها ووفق الأعراف الدبلوماسية المرعية أن تلتزم ميثاق جدة، الذي تم التوقيع عليه في مايو 2023 وكان أول شرط فيه الامتناع عن أي هجوم يتسبب في ضرر المدنيين والمرافق المدنية والجلاء عن مساكنهم المحتلة. وقد نال الاتفاق الذي سمي ‘إعلان جدة’ موافقة كافة أطراف المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، ويحظى السودان بعضوية الكل.
وقد وقع على الإعلان ممثل القوات المسلحة وممثل مليشيا الدعم السريع ، وعلى رؤوس الأشهاد، منذ مايو 2023 ولا تزال شروطه سارية المفعول تنتظر التنفيذ من الطرف المتمرد.
على الإيغاد أن تقف حصرياً مع الدولة العضو، التي أسست المنظمة وكانت من بنات أفكارها. فهي ليست منظمة وساطة، بل منظمة للأمن القومي الإقليمي وحماية الدولة العضو من الاندثار والتشتت.
وليس للإيغاد، وفق ميثاقها التأسيسي، أن تقف مع المجاميع المتمردة على الدولة العضو مهما بلغت سطوة من يقف وراءها، هذا هو منطوق وروح ميثاقها. وقد كان هذا ديدنها وسيرها المؤسسي منذ تأسيسها عام 1986 فقد رفضت المنظمة من قبل عضوية “أرض الصومال” – صوماليلاند – التي أعلنت نفسها جمهورية من طرف واحد منذ عام 1991 وحتى اليوم، كما رفضت من بعد، وسيراً على ذات النهج، وكنت شهيداً من تلقاء مقامي كمندوب دائم حينها، عندما طلب وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM عام، 2009 وكانت تقاتل القوات المسلحة منذ 1983 فطلب عقد جلسة استماع لتنوير وزراء الخارجية والمندوبين الدائمين والمنظمات الدولية بمقر المنظمة بجيبوتي.
الفرق الذي حدث اليوم في سياستنا الخارجية والإقليمية، هو الهوان الذي غشي أعين وبصائر من تربعوا على كرسي السلطة، الذي لم ينتخبوا له، ولا كان مقامهم فيه برضى ولا وفاق ولا شورى من عموم شعب السودان، بعد أبريل 2019 فمنذئذ أصبح السودان الوطن، مهتوك السيادة، وطيئ الدرج، رخص البراثن، تتحكم فيه وتدير أجندته السفارات الأجنبية، التي استغلت سذاجة وضحالة خبرة ودربة من أتى بهم الزمن الغافل حكاما، تحت شعارات غريبة، وسمات مصطنعة وركيكة، حتى دارت عليهم الدوائر التي تغشى مصارع الظالمين.
فلما انتبه الشعب السوداني لممارسة سيادته بالأصالة، بعد نبذ ما اختلس منه بالوكالة، برزت هذه السوءات الفاحشة، التي بدت لنا من سفاح السياسة، وسماجة السلوك. فأصبح السودان نهباً تلوكه الألسن، ويفتي في شأنه الرويبضة، ويقتل المرتزق العاني أهله، فيحتل سكنه، ويغتصب حرائره.
آن الأوان ليكون السودان للسودانيين جميعاً، وليس نهباً لشرذمة ناشزة، لا ترقب في شعبه عهداً ولا ذمة، ولا تعرف عرضاً ولا شرفاً، ففاقد الشيء لا يمنحه غيره.
لا يمكن أن يرهن السودان سيادته لكائن من كان، بعد ما استقبل من الأمر، استناداً على إرثه الحضاري، وعزة قراره السياسي، لأنظمة مبهمة الهوية، فقدت الرؤية والتوجه والإستراتيجية، فأضحت تتسول دول العالم، عارضة قضايا المنطقة عند الطامعين والمتربصين الأجانب، لرفد ميزانيتها التي لا تفي مساهمات الدول الأعضاء بتغطية برامجها.
يجب ألا يسمح السودان لشعبه أن يكون كبش فداء، وحقل تجارب للنظريات الوافدة والتطبيقات الفاشلة. ولا عليه أن يلتزم بأي قرار يهتك سيادته، ويفتت وحدته، ويسعى لتمزيقه بالدم والنار والسلاح المرتزق. فعلى رعاة المخطط أن يرعووا ويكفوا أيديهم فلا يقطعها الشعب حداً وقصاصاً. فقد وعى الشعب السوداني بعد أحداث 15 أبريل ما عليه أن يفعل.
فالسودان اليوم منيع بمقاومته المسلحة، ووحدة كلمة أهله المساندة لجيشه الوطني، الذي يلزمه الدستور حصرياً بحماية الأرض، والعرض وتعزيز الاستقلال السياسي ووحدة التراب الوطني .
فالخيار لمستقبل ما يكونه السودان بعد اليوم، هو خيار القواعد الشعبية، في المدن والفرقان والبوادي والأرياف، تلكم الجماهير الثائرة القابضة على جمر قضيتها بالأصالة، من شباب يرون الاستشهاد في شأن الإله حياة، وكهول وشيوخ مجربين في إدارة الشدائد والكروب، لا يترددون في الذود بكل غال ومرتخص لحماية العرض، ومستشرفين للموت حفاظا عليه.
هذه هي القوى الوطنية الرابضة على أرض المعركة، التي ظلت حامية السودان، وجذورها ممتدة منذ عشرات الآلاف من سني الحضارة وادارة التحضر والتمدن، وهي منظومة قيم وممارسات وسلوكيات وأخلاق، متوارثة بالتراكم التاريخي الممتد، لا تشترى في المعارض التجارية، ولا تعرض على أرفف الهايبرماركت، تشهد بها أطلال كرمة، وإهرامات البجراوية ومروي، ومدافن كبوشية وسوبا وسلطنات سنار ودارفور وتقلي.
هذه هبة الإله الخلاق لأهل الكرامة والنشامى، الذين لم تبق لهم مؤامرات خائني الذمم، وفاقدي الشرف، ما يؤبه له، فحملوا أرواحهم رخيصة وبذلوا دمائهم قرابين.
وقال شاعرهم المغني:
شنو الفضل يخافو عليه..
فالشعب السوداني اليوم يتمثل شعارات محرضي الحرية، ودعاة الكفاح الباذخ في مشارف المجد التليد على مدار فصول التاريخ:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق..
فقرآن أهل السودان، الذي يعكفون على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، في شهر تنزلاته المبارك الكريم، يستفزهم بوحي محكم التنزيل:
“قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين..” الآية ١٤- التوبة – صدق الله العظيم.
السفير د. حسن عيسى الطالب