رأي ومقالات

القول ونقيضه في جملة واحدة

لكل قولٍ نقيضه. الحياة من حولنا تعجّ بالمتناقضات، وهذه المتناقضات هي من سنّة الحياة وطبيعتها، فهي مفيدة وضرورية في كثير من الحالات، وإلّا لكانت الحياة من لونٍ واحد فقط، ولكانت الخيارات أمام الناس عصيّة، ولكن هناك متناقضات سلبية، حين تشي بازدواجية الشخصية مثلاً، وكثيراً ما تنطوي هذه الازدواجية على قدرٍ من الرياء والنفاق، كأن يُظهر المرء شيئاً غير الذي يخفيه.

ما من مفردة تُوحد بين الشيء ونقيضه كمفردة «لكن»، سواء بالعربية أو بما يحمل معناها في اللغات الأخرى، واتساقاً مع منطق الأشياء سنجزم أنه ما من لغة في العالم تخلو من مفردة تحمل المعنى نفسه الذي تحمله مفردتنا العربية: «لكن».

في قصة قصيرة للكاتبة المجرية كريستينا توت، تحكي البطلة الشابة عن علاقتها بأمها، فحين تستشير البنت الأم في أمرٍ ما، يأتي رد الأم كالتالي: «أنتِ أدرى بمصلحتك»، كما حدث حين أخبرتها البنت مرةً أنها أجّلت امتحانها إلى شهر سبتمبر/أيلول التالي، فكان الرد نفسه، الجملة المكوّنة من ثلاث كلمات: «أنتِ أدرى بمصلحتك». وهي الجملة التي كانت أكثر ما سمعته البنت من أمها في حياتها. وللوهلة الأولى تنمّ هذه الجملة عن ثقة كبيرة توليها الأم لابنتها، في قدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة، لولا استدراك كاتبة القصة بالقول على لسان البنت: «بعد أنتِ الأدرى عادة ما تأتي كلمة (لكن)، ففي جملة أنتِ الأدرى تلك كانت أمي تستطيع خلط ظلال لا تحصى من التهديد والابتزاز».

تضيف كاتبة القصة التي حوتها مجموعتها القصصية «باركود» التي ترجمها إلى العربية كريم جمال الدين، أن أذن البنت التي تربّت على سماع تلك الجملة استطاعت أن تستخلص منها عدم الرضا والاعتراض التام، وإذا كانت هناك مشكلة أكبر وأرادت الأم أن تبدو أكثر حسماً، فإنها تضع جانباً ما تمسك به من ملعقة أو صحن أو تليفون، وتقول لابنتها: «ليس لديّ تعليق على ذلك».

هي هكذا مفردة «لكن» السحرية جامعة النقائض في جملة واحدة، فبفضلها يأتي الناس على ما يشاؤون من الأقوال، ويقطعون على أنفسهم ما شاؤوا من الوعود والمواثيق والالتزامات، ثم يرفقونها ب «ولكن»، لتليها جملة من نوع: «هذا يتوقف على الظروف وعلى المشاغل وعلى الملابسات وعلى المستجدات»، إلى آخر ما في هذه القائمة من مفردات أو تعابير.

والحياة حافلة بهذا النوع من الاستدراكات التي تتوخى التبرير، هروباً من شجاعة الإقرار بالأخطاء والتقصيرات وسوء إدارة الأمور، وبأن الأحوال كانت ستصبح أفضل لو أننا كنا غير ما نحن عليه، أو لو كان مَنْ تصدَّى للمهام أكثر كفاءة ودراية.

حسن مدن – جريدة الخليج
6 3