أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

شبح الجوع يطارد السودانيين.. الحرب تجرّد الناس من أعمالهم وتُبيح الاحتكار

تسود مخاوف إقليمية ودولية من مجاعة تهدد السودانيين، ولاسيما بعد توسع نطاق الحرب ووصولها إلى مناطق الإنتاج الزراعي، مثل الجزيرة، التي تضم أكبر مشاريع زراعية في البلاد، ويُعتمد عليها في تغطية جزء من الاستهلاك المحلي من محصول القمح.

لم يعد أمام الفاتح حسين، الذي لا يزال يقيم مع عائلته بالعاصمة السودانية الخرطوم، أيّ خيارات للحصول على الأكل بعد نفاد المواد الغذائية من المتاجر، وتجفيف أغلبية الأسواق، نتيجة الحرب المحتدمة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منذ منتصف نيسان/أبريل الماضي. كما أنفق كل ما في حوزته من مال، وهو يعيش الآن تحت ظروف قاسية، ويهدده شبح الموت جوعاً.

خلال فترة طويلة، ظلّ حسين وأفراد أسرته يكتفون بتناول وجبة واحدة في اليوم. وفي بعض المرات، لا يجدون ما يسدّ رمقهم. فمع ندرة المواد الغذائية الأساسية، مثل اللحوم والخضروات، هناك ارتفاع مطّرد في أسعار السلع، التي يصل القليل منها إلى حيّه السكني في ضاحية أمبدة في مدينة أم درمان، غربي العاصمة الخرطوم. وفي ظل عدم وجود المال لم يتمكّن من شرائها، وفق حديثه إلى الميادين نت.

يجسد الفاتح حسين حال ملايين السودانيين العالقين في مناطق الصراع المسلح في العاصمة الخرطوم وإقليمي دارفور وكردفان وولاية الجزيرة، غربي البلاد ووسطها، وحال النازحين في المناطق الآمنة، فكلهم يعيشون تحت ظروف معيشية صعبة، في ظل النقص الحاد في المواد الغذائية، والتي تسبَّبَ بتعثر وصولها أيضاً تدهورُ الأوضاع الأمنية وانعدام المسارات الآمنة.

وتدخل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شهرها العاشر من دون أن تلوح إلى الأفق أي بوادر للحل السياسي السلمي، بل تمضي الأوضاع نحو مزيد من التصعيد بين الطرفين، كما فشلت مساعٍ دولية وإقليمية في جمع قائد الجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي، إلى طاولة تفاوض مباشرة من أجل تسوية الصراع.

وعلقت المنظمات الدولية، بما في ذلك برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أنشطتها في ولاية الجزيرة وسط السودان، بعد انتقال الحرب إليها في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وسقوط عاصمتها ود مدني في أيدي قوات الدعم السريع، الأمر الذي زاد في حدة الفجوة الغذائية في المنطقة، إذ كان أغلبية السكان تعتمد على المساعدات الإنسانية.

يروي الفاتح حسين، بأسىً، الوضع القاسي الذي يعيشه مع أفراد عائلته، وهم يكتفون بوجبة واحدة فقط في اليوم، مع غياب بوادر الأمل في انتهاء معاناتهم، في ظل استمرار الصراع المسلح.

ويقول: “نقيم بمنطقة أمبدة، غربي أم درمان، إذ تسيطر عليها عسكرياً قوات الدعم السريع، وقام الجيش بمنعنا من شراء المواد الغذائية من سوق صابرين، شمالي أم درمان، والذي يقع داخل نطاق سيطرته، بحجة أنها تذهب إلى تغذية قوات الدعم السريع. وهو، عبر ذلك، يعاقبنا كمواطنين من خلال حرماننا من السلع التموينية، بحيث لا توجد سوق مليئة بالسلع غير صابرين”.

ويضيف: “نعيش تحت وضع أشبه بالحصار، إذ نواجه صعوبة في التنقل من مكان إلى آخر بسبب عمليات القصف العشوائي، والتضييق الأمني من العناصر العسكرية المنتشرة في منطقتنا، والتي تفتشنا وتقيّد حركتنا، بينما أغلقت مجموعة من المحال التجارية والمخابز أبوابها بسبب نفاد السلع وطحين القمح”.

ويشير إلى أنه ظل، طوال فترة الأشهر التسعة التي أعقبت اندلاع الحرب، بلا أي مصدر للدخل، محاولاً استئناف نشاط تجاري محدود في إحدى المناطق الطرفية، لكنه لم يتمكن من الاستمرار بسبب عمليات القصف العشوائي، واضطر إلى البقاء داخل منزله والعيش تحت رحمة مساعدات مالية محدودة، تأتي إليه من وقت إلى آخر من أقربائه ومعارفه، من أجل سد بعض الرمق.

وتسود مخاوف إقليمية ودولية من مجاعة تهدد السودانيين، ولاسيما بعد توسع نطاق الحرب ووصولها إلى مناطق الإنتاج الزراعي، مثل الجزيرة، والتي تضم أكبر المشاريع الزراعية في البلاد، ويُعتمد عليها في تغطية جزء من الاستهلاك المحلي من محصول القمح، بحيث يواجه الموسم الزراعي الشتوي شبح الإتلاف نتيجة المعارك العسكرية.

وبحسب ممدوح أبو بكر، وهو مواطن من مدينة الحصاحيصا في ولاية الجزيرة، وسط السودان، فإنّ السكان في منطقته يواجهون مصاعب كبيرة في الحصول على الغذاء، بحيث أغلقت الأسواق والمتاجر أبوابها بسبب المواجهات العسكرية وأعمال النهب، وبدأت مظاهر الشحّ لعدد من السلع، وخصوصاً الدقيق والسكر، بعد مضي نحو شهر من اجتياح قوات الدعم السريع للولاية.

ويقول أبو بكر، في حديثه إلى الميادين نت: “قاربت السلع الموجودة لدينا على الانتهاء، ولم يتبقّ لنا سوى قليل من الذرة. نحن في حاجة إلى دعم إنساني بصورة عاجلة، وإذا لم يصلنا فربما لا نستطيع الحصول على الطعام خلال الأسبوع المقبل. لقد هرب أصحاب الأعمال التجارية، وهرّبوا أموالهم إلى المناطق الآمنة، بسبب أعمال النهب”.

ويضيف: “اضطرت أغلبية سكان الجزيرة، وهم في معظمهم مزارعون، إلى النزوح إلى المناطق الآمنة، وترك هؤلاء مزارعهم ومحاصيلها من دون حصاد. كما سيفوتهم أيضاً موسم الزراعة الشتوي، والذي تتركز فيه زراعة محصول القمح. وهذا الأمر سيفاقم معاناة الفلاحين، وسوف يتسبب بزيادة الفجوة الغذائية في البلاد”.

وتُعَدّ ولاية الجزيرة، وعاصمتها ود مدني، بمنزلة قلب السودان، نسبةً إلى موقعها الجغرافي. وتشكل حلقة وصل من أجل ربط شرقي البلاد بغربيها، وتُعَدّ معبراً رئيساً لحركة السلع والبضائع من الموانئ المطلة على ساحل البحر الأحمر إلى المناطق الغربية. وبعد اجتياحها من قوات الدعم السريع، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، انقطع الإمداد كلياً عن إقليمي كردفان ودارفور، غربي البلاد.

ويفيد سليمان عبد الله، من ولاية غربي كردفان، الميادين نت، بـ”ارتفاع أسعار السلع بصورة جنونية في كردفان الكبرى بمعدل يفوق 100 في المئة، وصرنا عاجزين تماماً عن توفير احتياجاتنا الغذائية نسبةً إلى توقف مصادر دخلنا وكساد الموسم الزراعي ورخص ثمن المحاصيل الزراعية، التي نعتمد عليها في معيشنا، كما توجد بوادر للندرة في بعض السلع”.

ويضيف: “قمنا بتغيير نمطنا الغذائي والاعتماد على الأطعمة المصنوعة من الذرة المحلية بصورة كلية، إلى جانب تقليص عدد الوجبات لتصبح وجبتين في اليوم بدلاً من ثلاث وجبات، كما كانت في السابق. وهي تدابير نسعى، من خلالها، لتجنّب نفاد مخزوننا الغذائي، والحد من آثار المجاعة التي نراها تُحدِق بنا”.

وتلاحق مأساة الغذاء أكثر من 7 ملايين نازح سوداني تركوا منازلهم بسبب الصراع المسلح، وهم يقيمون بمراكز إيواء موقتة في الولايات الآمنة، في ظل ظروف إنسانية صعبة وقاسية، ووسط نقص في الغذاء.

وتروي ماجدة محمد، وهي نازحة تقيم بأحد مراكز الإيواء الموقتة في مدينة بورتسودان، شرقي البلاد، لـلميادين نت، أنهم يعيشون أوضاعاً غير إنسانية في الوقت الراهن، فليس هناك أي جهة ملتزمة توفير احتياجاتهم من الأكل والشرب، ويعتمدون فقط على الجهود التي يقوم بها شبان متطوعون من المنطقة.

وتقول: “على الرغم من المجهود الكبير، الذي يقوده الشبان المتطوعون، فإنه، في بعض الأحيان، لن يتوافر لنا أي طعام، ونظل جائعين طوال اليوم، ويبكي الأطفال بشدة بينما نربط نحن الكبار على بطوننا. وأُصبت بالحمى، ومرض أولادي أيضاً بسبب النقص في الغذاء. نحن في حاجة إلى من ينقذ حياتنا”.

وتضيف: “لقد سئمت النزوح ومعاناته، ويجب أن تتوقف هذه الحرب. فنحن المواطنين من يدفع ثمنها. أريد العودة إلى منزلي في العاصمة الخرطوم، وأن يستأنف زوجي عمله في السوق، وتعود حياتنا الطبيعية مثلما كنا في السابق. ما يحدث معنا الآن بمثابة جحيم لا نستطيع احتماله أكثر من ذلك. نعم للسلام الذي يعيدنا إلى الحياة”.

مرتضى أحمد – الميادين