عادل عسوم: ذكرياتي في مكة المكرمة
ذكرياتي في مكة المكرمة
2/1
(الجزئين معا)
ظل أذان إبراهيم عليه السلام يتردد في وجداني منذ أن قرأت هذه الآية الكريمة في صباي فتعلق قلبي بمكة المكرمة منذ يُفعي، وإذا بي يكرمني الله بالقبول للدراسة في جامعة ام القرى، كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن الماضي، اوصلني البص من جدة إلى المسجد الحرام، فدخلته من باب السلام معتمرا بعد أن تركت حقيبة ملابسي في أماكن حفظ الحقائب خارج الحرم، ثم دخلت من باب السلام وبيدي حذائي وفي قلبي تحتشد مشاعر شاب لتوه ولج إلى العشرين، اغرورقت عيناي بالدموع عند ولوجي إلى الصّحن السابح في لُجَّةِ الأنوار تتوسطه الكعبة المشرفة شامخة ترنو إلى السماء، سواد كسوتها الحريرية ينعكس على رخام الحرم صحنا وحوائط ومآذن، وكلما اقتربت من منطلق طوافي مقابل الحجر الأسود؛ يزداد تكاثف الأنوار فكأني بنور من الله يتغشى الكعبة، بدت لي ككوكب دُرّى يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، وما فتئت الأنوار تتداخل وتصطرخ أمام ناظري إلى أن تغشت الدُنا الخيوط البيض الأولى من الفجر، وكنت حينها فرغت من عمرتي وتهيأت لصلاة الفجر.
وما إن أشرقت الشمس ذهبت إلى حيث يربض سكن جامعة أم القرى في منطقة الحوض/العزيزية، وكان سنيها داخل المنطقة الحرام قبل ان يتم نقلها إلى خارجه بعد تخرجي فيها، وفي مساء اليوم حرصتُ على الذهاب إلى جبل أبي قبيس لحاجة في نفسي قضيتها مستصحبا الآية الكريمة التي خاطب فيها الحق سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الحج 27
منذ أن وقعت عيناي على هذه الآية الكريمة ظل يتردد في دواخلي سؤالٌ:
كيف للناس أن يصلهم أذان نبي الله إبراهيم بالحج يومها؟!
ذكر المفسرون بأنه عندما أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج سأل وقال:
– يا رب، كيف أُبَلِّغَ الناس وصوتي لا ينفذهم؟
فقال الله جل في علاه؛ نادِ وعلينا البلاغ!
فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قبيس (وهو الأرجح)، وصاح:
(يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه).
يقال بأن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه، من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله له أنه يحج إلى يوم القيامة (لبيك اللهم لبيك).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام؛ هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
لم النت وقوقل قد اتيح للناس بعد.
وقفت على جبل أبي قبيس، وكأن الزمان عاد إلى يوم وقف إبراهيم عليه السلام يؤذن في الناس، وإذا بي يتغشاني النعاس أَمَنَةً، ويتنزل عَلَيَّ من السماء ماء فيطهرني ويذهب عني رجز الشيطان، وربط الله على قلبي وثبت أقدامي، فأسندت ظهري إلى صخرة لاتقي رذاذ المطر وقد شرع في الهطول، وانبرى لي السؤال:
كيف وصل صوت نبي الله إبراهيم إلى الناس حينها وعلى مر السنوات والقرون، ليأتوا إلى بيت الله من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر؟!
قلت لنفسي طالما كان الصوت مادة – والمادة كما هو معلوم لا تفنى إلاّ إذا شاء الله -، فإن الصوت/المادة يظل بعد خروجه من حنجرة صاحبه سابحا في الهواء من حولنا، وهذا يعني أن الفضاء مليء بالأصوات منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تنتظر من يستطيع التقاطها وإعادتها إلى صورتها الأولى؛ وإن كان بعد وفاة صاحب الصوت بمئات الآلاف من السنين، وعلمت بعد بأن ذلك كان أحد الطموحات العلمية التي سُعِيَ إلى تحقيقها من خلال مشروع إسمه “حرب النجوم” تبناه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
فسألت نفسي:
أليس من الممكن للبشرية أن تستطيع اكتشاف طريقة للدمج بين فيزياء الصوت وكيمياء وبايولوجيا الخلية البشرية لإيصال التردد الصوتي من خلال ال DAN و RNA وبقية مكونات خلايانا؟!
لقد أمرنا الله بالتفكر في الكون وفي ما خلق الله، وجعل ذلك ديدناً لرسله وأنبيائه:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 13الجاثية.
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}61
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}البقرة 163-164.
امضيت من عمري سنوات خمس في الجامعة، وتشرفت بنيل البكالوريس منها، واكرمني الله بغرس (شجرة نيم) في عرفات الله، ثم عدت إليها في نهايات التسعينات لأجدها شجرة ظليلة، فوقفت تحتها وأنشدت هذه الابيات:
مُدِّيْ غُصونَكِ في دلال
وارفدي الحجاج دوما بالظِلال
وتَمَايَسِي فالأرضُ طهرٌ
وكل السُّوح يَغْمُرُها الجَلال
إنَّها عَرَفاتُ ربِّي
حيثُ يَغْفِرُ ثُمَّ يَهْدِيْ كُلَّ ضَال
الناسُ اذْ سَمِعُوا النِّدَاء من الخليل
جاؤه بالضُمُرِ النَّحِيْلَةِ أو رِجال
هتف الخليل عليه من ربي السلام
فارتجّت الأرضُ الخلاء
وكل هامات الجبال
إنه نِعْمُ الأذان
بل إنَّه نفحُ الدُّعَاءِ
يوم جاء الوادِ قفراً ورمال
وأناخ النوقَ قرب البيت زُلفى
فوقها اسماعيلُ محمودُ الخِلال
هانئ في حضن هاجر
إنها زوج نبي
وهي أمٌّ لنبي
أبشري بالخير، ياااانعم المآل
ومضى الخليل من بعد السؤال
أَدَعَاك ربُك؟!
إذن فالله لن يخذلنا بحال
فهي تعلمه نبي
إنه بشرٌ
ولكن فيه احتشدت خِصال
فهو لم يركع لغير الله يوما
وسَعْيُ الرزق دوما في الحلال
وإذا بالنار برد وسلام لا اشتعال
ومضت أيامُ هاجر في الحرم
نفد الطعام ولَبَن الضرع زال
واستبد الجوعُ بالطفل الرضيع
فانبرت لل(سعي) عطشى
سبع مرات سجال
يا إلهي، ليس في الأنحاء إنسٌ
وظهرُ الوادِ من الزّرع خال
وانبرت لله تدعو
فإذا بالماء سال!
مَدَّتْ َأيَادِي الشُّكر طُرّاً
وانحنت للنبعِ تَحثوهُ الرِّمَال
أقعت (تَزُمُّ) الماءَ زَمَّا
لينأى عن السَّوَحَانِ في جوفِ التِّلال
ليتَ هاجَرَ لَمْ تَزُم!
لاستحال ال(بئرُ) نهراً من زُلال.
لاستحال البئرُ نهرا من زلال.
عادل عسوم.
عرفات الله.
وإلى الجزء الثاني:
ذكرياتي في مكة المكرمة.
2/2
عادل عسوم
غدا يوم يوم التروية، حيث يجتمع الحجاج في مشعر منى استعدادا للذهاب إلى عرفات الله في بحول الله.
كنت ادرس سنيها أدرس في جامعة ام القرى بمكة المكرمة، وبذلك كنا في حكم أهل الحرم استصحابا لتفاصيل أداء مناسك الحج، وماكان علينا سوى الإحرام من بيوتنا داخل مكة مساء هذا اليوم لنقضى ليلنا في مشعر منى، لنتوجه صباح الغد إلى عرفة.
اعتدنا على ذلك في العام الأول والفصل الأول من العام الثاني، لكننا بعد ذلك تيسر لنا الالتحاق بمعسكر اسمه (جعفر أكبر) في مشعر مني، كانت تؤمه عدد من الجامعات من دول الخليج العربي، أساتذة وطلبة، وكم كانت الفائدة فيه ذاخرة حيث تجد عددا مقدرا من علماء العالم الإسلامي فيه فتجالسهم وتنهل من علمهم طوال أيام المعسكر في منى من قبل الذهاب إلى عرفات، وكذلك بعد العودة من عرفات للبقاء فيه خلال أيام التشريق، ومن أولئك الشيخ السيد سابق مؤلف فقه السنة، والشيخ محمد علي الصابوني مؤلف صفوة التفاسير والعديد من الكتب الأخرى، والشيخ الزنداني، والشيخ ابن حميد، والشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز صاحب كتاب دستور الأخلاق في القرآن، والشيخ محمد قطب، وغيرهم كثر، اسأل الله الرحمة لمن رحل منهم والعافية لمن بقى.
المعسكر كان وكما يصفه البعض (5 نجوم) لما فيه من سبل الراحة والطعام الفاخر والسيارات المختارة بعناية للترحيل إلى بقية المشاعر ، وبالطبع لم نكن ندفع مالا مقابل ذلك، إنما يسعى الطالب منا للتقديم قبل الحج على أن يكون معدله الدراسي جيد جدا على الأقل، ولعمري إن الحج برفقة العلماء نعمة عظيمة ولله الحمد والشكر على ذلك.
من الطرائف التي اذكرها خلال أحد مواسم الحج، كان معنا طالب أفريقي من دولة الجابون من طلبة معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها (وهذا هو الاسم الصحيح عوضا عن التسمية الشائعة “معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها”)، وهو أحد المعاهد المتخصصة التابعة لجامعة ام القرى، وقد كان جل الأستاذة فيه من السودانيين، واسم صاحبنا هذا مصطفى، ما إن جلسنا للغداء في معسكر جعفر أكبر، نبهني احد زملائي السودانيين بأن مصطفى يلبس (مايوه) لونه احمر تحت الإحرام! وعند الفراغ من الطعام دعوناه سويا جانبا وشرعنا في إقناعه بأنه لايجوز لبس المخيط خلال الحج، فإذا به يغضب ويثور ويرتفع صوته وهو يرد علينا بالفصحى وبلكنة الأفارقة المحببة:
يا أخي آدِلُ، أتريد أن تكول لي بأن الله يأمرني أن أكشف أن أورتي المقلظة؟
ومصطفى ماشاء الله، طوله يكاد يصل المترين، ولعله كان من رافعي الأثقال قبل أن يطلب العلم، توحي بذلك بنيته الجسدية.
– يا أخي مصطفى، الأمر ليس أمر كشف عورة أو سترها بقدر ماهو التزام بما شُرِع لنا كمسلمين فعله خلال الحج، فقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالتجرد من المخيط والمحيط.
ظللنا نحاول اقناعه لساعات وفشلنا، فذهبت إلى الشيخ السيد سابق وابلغته بالأمر، واستطاع بعد جهد جهيد إقناعه فنزع عنه المايوه.
ومن نوادر مصطفى الأخرى انه خلال سكناه في سكن العزاب الجامعي وقد كانت العمائر مقامة بجانب مبنى الجامعة القديم في منطقة الحوض/العزيزية داخل مكة (أصبحت المباني الآن خاصة بكلية البنات بعد نقل مباني الجامعة إلى الحِل خارج مكة)، وقد اعتاد المعتمرون والحجاج من أهل الطلبة القادمون من بلدانهم زيارة ذويهم من الطلبة في تلك العمائر، واعتدنا استضافة البعض منهم في غرفنا، لكن ذلك كان ممنوعا من إدارة السكن الجامعي، وكانت الإقامات حينها عبارة عن دفاتر تشبه جوازات السفر الحالية، ويختم داخل إقامة كل طالب منا ختم مستطيل يفيد بأنه (لايصرح له بالعمل بأجر أو بدون أجر).
مصطفى هذا زاره – من علمنا بعد ذلك- بأنه والد خطيبته، وهو من وجهاء دولة الجابون، ولسوء حظ مصطفي مر علي غرفته في ذلك اليوم مسؤل السكن، وقد كان يزور عرفنا بنفسه ليتحقق من عدم استضافتنا للزائرين، ويعاقب كل من يضبط متلبسا من الطلبة بوجود زائر في غرفته بعدد من العقوبات، طرق الرجل باب غرفة مصطفى ففتح له الباب وسأله عن المستضعفين ثم عنفه على ذلك، فغضب مصطفى، وقال لي – وقد كنت جاره- بأنه أحرجه كثيرا امام نسيبه، ولعله اسرها في نفسه تجاه المسؤول السعودي.
ومرت الايام، وخلال يوم مطير من ايام مكة كنا مجموعة من السودانيين نقف امام مسجد الجامعة من الخارج قبيل الذهاب إلى بقية محاضراتنا، فأتى ذات المسؤل بعربته أمامنا لتتعطل فجأة بسبب ارتفاع منسوب مياه المطر الذي قارب حافة الرصيف الذي كنا نقف عليه، فأشار لنا المسؤل السعودي وكان صديقا لعدد منا راجيا المساعدة في دفع سيارته لايقافها على جانب الطريق، فتهيأنا لذلك، لكن ظهر مصطفى فجأة وهو يلبس مايشبه الدراعة الموريتانية، وعندما أفرد يديه أصبح شكله من الضخامة بمكان وكأنه نسر عظيم، قال لنا غاضبا:
ارجوكم يا إكوتي من السودان لايسائدنه أهد منكم.
تم اخرج دفتر الإقامة والتفت إلى المسؤول الذي ينتظرنا للمساعدة وقال له:
انظر إلى المكتوب هنا، ثم قرأ له العبارة:
(لايصرح له بالعمل بأجر أو بدون أجر)
فقهقه الرجل، وقال وهو يوجه حديثه لنا:
اسمعوا يا اخوان، مصطفى هذا منذ اليوم مصرح له بأن يستضيف من يشاء في غرفته.
فما كان من مصطفى إلا أن دفع العربة بمفرده وإخرجها من مكانها.
(يتبع أن شاء الله)
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com