📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (44) لندن (7)
السفير عبد الله الأزرق يكتب:
📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (44)
لندن (7)
الذي يفرّق ويُمَيّز بين الدبلوماسي المهني الناجح ونقيضه، هو المبادأة والمبادرة والابتكار والتصدي.
ومن ثم فإن الذي يقبع في مكتبه منتظراً توجيهات الرئاسة أو قيادة الوزارة، سيبقى عبئاً على المهنة، ظالماً لبلده الذي شرّفه بتمثيله.
وقد سجّل التاريخ العالمي وتاريخ الدبلوماسية السودانية مبادرات لسفراء نحتوا لأنفسهم سجلاً من فَخَار.
ويعرف تاريخ الدبلوماسية العالمية السفير الأميركي جورج كينان George Kennan صاحب سياسة الاحتواء المزدوج Dual Containment Policy، التي تبناها الرئيس ترومان وأصبحت إرثه ( Truman Legacy ) بل غدت تمثل سياسة أميركا تجاه الاتحاد السوفيتي حتى انهياره، إذ واصلها الرؤساء بعد ترومان.. وهكذا عُرف كينان كسفير غير التاريخ بل غير الجغرافيا السياسية لبلاد كثيرة وغير أنظمة . وسبق أن أشرنا لبعض لهذا.
مما يجدر ذكره أن كينان نشر مبادئ سياسة الاحتواء باسم مستعار هو (X) في مجلة فورن بوليسي، أول الأمر؛ كما أنه انتقد تطبيقات أميركا لسياسة الاحتواء المزدوج فيما بعد، وقال: إنها لا يمكن تطبيقها على كل الدول التي ترغب أميركا في إرْكَاعِهَا؛ ولا يمكن تطبيقها بالوسائل العنيفة فقط، وأنه لا مندوحة من استخدام المقاربات السياسية.
ورغم ذلك طبقتها أميركا بكل جفائها وغِلظتها، على كوبا وكوريا الشمالية والعراق والسودان وإيران وغيرهم.
وفي السودان، تحمد الدبلوماسية السودانية لوكيل الخارجية الأسبق السفير عمر بريدو، مبادرته بفكرة منظمة الإيقاد IGAD.
وتحمد للسفير علي يوسف أنه أبو مشروع البترول السوداني عبر إقناعه الصينيين.
وتحفظ للسفير عبد المحمود عبد الحليم أستاذيته في الدبلوماسية كفن ؛ وكذلك تعليمه للدبلوماسيين كيف يكونون مثالاً لثقافة وطن يمجد العِزّة ويَعْتَدُ بالكرامة ، ويأبى الخنوع والضَيْم .
وكان للرعيل الأول من الدبلوماسيين بصمات في علاقات السودان الخارجية. ويتحدث قدامى السفراء عن السفير عمر عديل ودوره في دعم حركة التحرر في الكنغو والدول الأفريقية الأخرى، حتى أصبح رقماً في الأمم المتحدة في نيويورك.
ولكن لأننا نعمل بسياسة: “كل ما جاءت أمةٌ لعنت أختها” فُصل ذلك السفير العظيم بعد ما سميناه ثورة أكتوبر، واعتبر من فلول نظام عبود.
وهي سياسة بائسة، وداء وبيل لم نبرؤ من ويلاته حتى اليوم.
ليس من المهم أن يبلغ الدبلوماسي درجة السفير ليبادر ويبتكر. فقد حفظت ذاكرة الخارجية أن المستشار (وقتها، ثم محافظ الخرطوم، ثم السفير في زمن الإنقاذ) مهدي مصطفى الهادي، كان هو من لعب دوراً أساسياً في إقامة السودان علاقات مع الصين. وكانت مبادرته هي العامل الذي مكن وزير الخارجية أحمد خير، وزير خارجية نظام الجنرال عبود، من هندسة علاقات مكنت عبود من الجمع بين المتناقضات؛ فزار عبود الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وبريطانيا. وزار السودان بريجنيف، وزاره تيتو رئيس يوغسلافيا، وشوان لاي نائب ماو تسي تونج؛ واعترف السودان بجمهورية الصين عام 1959 وأقام علاقات معها.
وكان للمستشار طارق فضل، فضل المبادرة باقتراح فتح سفارتنا في تايلاند.
ومثل هذا كثير.
وقد بادرتُ وأنا سكرتير أول بسفارتنا بالرياض بتمديد تقديم المعاملات القنصلية من الساعة 12 ظهراً حتى الساعة 3 عصراً. وكان المغتربون يعانون أشد العناء من قفل الخزينة الساعة 12 ظهراً وإيقاف تقديم المعاملات؛ خاصة أولئك الذين يأتون من مدنٍ بعيدة ولم يسمح لهم الكفيل إلاّ بغياب يومٍ واحدٍ.
وبادرت عام 1996 بإنشاء صندوق التكافل بوزارة الخارجية؛ الذي يمنح كل العاملين ما هو أكثر من مرتباتهم الشهرية؛ ويتواصل لست سنوات بعد التقاعد.
وأسهم ذلك في عون كل الموظفين خاصة أن رواتب الخارجية ضعيفة.
وأفاد ذلك العمال وصغار الموظفين خاصةً.
ولايزال الصندوق يواصل عمله؛ فقط أوقفته الحرب الحالية.
وتبنت وزارة الخارجية اقتراحي بترفيع القنصلية العامة في بلغاريا إلى سفارة.
وكان للوجود الدبلوماسي السوداني بصوفيا فوائده على السودان، خاصة فيما يتعلق بإنشاء السودان لستة مصانع حربية سدت حاجة القوات المسلحة لكثير من احتياجاتها؛ بل أصبح السودان يصدر بعض انواع السلاح فيما بعد.
كما تبنت وزارة الخارجية مبادرتي بفتح سفارة للسودان بأيرلندا؛ وكنت اقترحت فتح تلك السفارة منذ كنت سفيراً ببريطانيا، ثم تابعت الأمر من بعدُ؛ وذلك لأن الجالية السودانية بأيرلندا كانت تعاني أشد العناء؛ إذ يضطرون للسفر للندن – التي كانت تغطي أيرلندا – لقضاء أصغر معاملة قنصلية، ويكلفهم هذا مالاً وجهداً وزمناً.
وحين كنت وكيلاً للخارجية جعلت العاملين في سفاراتنا في مناطق شِدّة يستمتعون بإجازتين في العام. وحصرناها ذلك الوقت في ست سفارات.
وحين كنت مسؤولاً عن عملية شريان الحياة في نيروبي قمت بعدة مبادرات خففت من غلواء وتحيز موظفي المنظمات الدولية، الذين يديرون العملية، وعظّمت مكاسب السودان من العملية.
وبادرت بمنح كل من يقدم عملاً طوعياً أو خيرياً للسودان تأشيرة دخول إكرامية Gratis في كل السفارات التي كنت سفيرا فيها؛ وطبقت ذلك كمثال على القوافل الطبية الذاهبة لعلاج أهلنا في السودان تطوعاً ؛ وعلى الإنجليز الذين يتطوعون لتدريس الإنجليزية في السودان . وجرى تبني هذا الاتجاه من بعدي حتى أصبح تقليداً راسخاً في البلاد التي عملت بها.
ولعديد من السفراء والدبلوماسيين مبادرات وابتكارات في العمل الدبلوماسي السوداني أفادت السودان اقتصادياً، أو عرفت به ثقافياً، أو قوّته سياسياً على النطاق العالمي، وصدت عنه مشكلات واستهدافات.
وفي لندن كان مجلسا العموم واللوردات قلعة محصنة ضد وجهة النظر السودانية.
وكان أعضاء المجموعة البرلمانية الخاصة بالسودان المسماة All-Party Parliamentary Group في قسوة الوحوش في كل شأن سوداني.
وكان أساطينها لورد إلتون والبارونة كوكس والبارونة كينوك والايرل أوف ساندوتشت واللورد جيقدي ، ويرأسها وليم بين Bain .
وقد وجدت أن المعارضة السودانية وحركة قرنق قد لعبت بهذه المجموعة وأعمتها من أن ترى أي حق لدينا؛ فقد حشوها بادعاءات الرق (الذي روّجته منظمة التضامن المسيحي التي ترأسها البارونة كوكس) واستخدامنا للأسلحة الكيماوية التي لا نملكها، واضطهاد السودان وقتله لكل من يعارض الحكومة، وسلب حقوق المسيحيين!!
بدأت بمخاطبة المجموعة عبر الرسائل.
وفي ردودهم كانت تصلني بعض رسائل موغلة في العداء.
فقررت أن ألجأ للمواجهة المباشرة؛ وطلبت لقاءات معهم للحوار..
وكانت حوارات ساخنة؛ خاصة مع كوكس التي تسللت إلى جنوب السودان دون تأشيرة من حكومة السودان. وكانت مواجهتها بهذا الخرق غير القانوني صادماً لها ومُضْعِفَاً لحجتها.
السفير عبد الله الأزرق