رأي ومقالات

الخدمة المدنية ليست سلطة

المطلوب تغيير عقيدة الخدمة الوطنية بشقيها المدني والعسكري لا هيكلة الجيش بمفهوم المحاصصات الملغوم !
(مكرر من 5 أبريل 2023م قبل الحرب بعشرة أيام)

خطرت لي هذه المقارنة وأنا أشاهد بالأمس جزءا من لقاء في سودانية 24 كال فيه أحد ممن أظن من سيماهم أنه من سوداننا الأوسط (وسطسوداني) تهم التحيز للقوات المسلحة.
كانت التهمة أو الدليل الذي استند عليه لتأسيس الاتهام هو أنه لم يجد في القيادات في دارفور واحدا من دارفور بل كلهم من الوسط والشمال.

يالها من سماجة ومداهنة فجة أن يتبنى شمالي أو وسطسوداني منهج خطابات المظلومية الدارفورية المؤسس على مطالبات إحصائية مطلقة هكذا على عواهنها أو مطالبات مبنية على المحاصصات وكأن هذا الوسطسوداني يقول للدارفوريين التظلميين : ها أنا ذا أشارككم التظلم والقناعة بمظالمكم.

وأكرر ماذكرته في منشور سابق أننا نحن الوسطسودانيين عموما لم نكن ولم نزل لا نفهم دارفور.

بينما ظلت الإنقاذ بمؤتمرها الوطني وأجهزتها الأمنية بحسناتها وسيئاتها تتولى نيابة عنا عبء الملف الدارفوري بتعقيداته ومطالباته الإدمانية اللامتناهية فقد ظل راسخا في ذاكرتي مقال قرأته ذات سنة من سنوات الإنقاذ عقب إندلاع التمرد الدارفوري في 2003م بعدة سنوات حين أدرك الرأي العام الوسطسوداني أن هناك مشكلة إسمها دارفور.

كان كاتب المقال أحد أبناء دارفور وكان يتحدث عن المشاكل والمضايقات التي تواجه رؤساء المحليات من ابناء دارفور في التعامل مع المسائل والنوازل المتجددة في محلياتهم في ظل الاستقطابات والتجاذبات الحادة بين القبائل.

وجه كاتب ذلك مناشدته لحكومة المؤتمر الوطني ألا تعين في قيادة محليات دارفور إلا من هم من خارج دارفور حتى ينظر إليهم الناس كمحايدين ويطمئنوا أكثر لقراراتهم.

وهناك اعتقاد شائع حتى بين الدارفوريين أنفسهم حاليا في يومنا هذا مفاده أن المحليات الحالية في دارفور قد تم تأسيسها بهدف إرضاءات القبائل ولهذا ستجد في إرشيف الشبكة العنكبوتية ربطا كثيرا بين الحاكورة والمحلية في دارفور وهذا ما لن تجده في جغرافيا الوطنجية ( الحاكورجية والوطنجية : راجع منشورنا السابق ).

راجع مثلا ما حدث في مأساة أول رمضان في تندلتي شمال غرب الجنينة على حدود تشاد وكيف أن الاتهامات قد صوبت تجاه الشرطة باعتبارها متحيزة عرقيا لأن غالب أفرادها من مكون محلي ولهذا تلكأت في القيام بواجبها تجاه إنقاذ الضحايا وهي تعلم الخطر المحدق بهم ، ولست أنا المتابع من بعيد من يزعم ذلك بل أحد طرفي الأزمة من المكونات المحلية ، فكيف إذن يمكن معالجة مثل هذه الشكوك ؟!

هل نتبنى نفس منطق التظلميين ونعيد هيكلة قوات الشرطة بحيث تضم كل المكونات ؟!
ياله من حل فاشل إذن ، لأنه في تلك المجتمعات ذات التعصب الإثني والتراكمات السلبية على مدى سنوات الأزمة فإن كل عسكري وجندي يمكن أن ينحاز وقت الحارة بسلاحه وذخيرته لقبيلته ، هكذا وبكل بساطة يتفكك الجهاز الأمني أو يتمرد ضد بعضه.

إن المنهج الإرضائي المبني على الإحصاءات والمحاصصات فاشل وسيظل يقودنا من فشل إلى فشل.

نعم ، إن كل الفلسفة التي بنيت على أساسها منهجية حلول أزمة دارفور منذ أبوجا الأولى خاطئة لأنها بنيت على مقابلة احتجاجيات الكتاب الأسود من خلال الإرضاء بالتوظيف في الخدمة العسكرية والخدمة المدنية.
ما هو المطلوب إذن ؟
إن المطلوب هو تغيير عقيدة الخدمة الوطنية بشقيها العسكري والمدني :
لأن عقيدة الخدمة المدنية Civil Service من أسرار التقدم فإن الإنجليز لم يؤسسوا في السودان خدمة مدنية على عقيدة الخدمة المدنية في بلادهم ولكنهم أسسوا جهازا للموظفين الحكوميين لخدمة سلطة حكمهم الثنائي وليكون واجهة السلطة في التعامل مع الجمهور ، ولهذا لن تجد عند موظف الخدمة المدنية في السودان اعتقاد مؤسس وراسخ أنه خادم للجمهور أو أنه موظف لخدمة جمهور المتعاملين مع المصلحة الحكومية.
إن كلمة خدمة service في عقيدة الخدمة المدنية civil service السودانية مبنية على أن الموظف هو خادم الحكومة وليس خادم الناس أو المواطن ، بينما في الغرب يفهم الموظف الحكومي موقعه من المعادلة فعلا ويفهم أنه خادم المواطن لأن الحكومة نفسها خادمة المواطن الذي اختارها بالانتخابات الحرة وهو الذي يدفع رواتبها من جيبه من رئيس الوزراء حتى أصغر موظف.

بهذه العقيدة فإن الخدمة المدنية في الغرب تكليف لا تشريف وليست سلطة.
لي صديق تفرقت بيننا السبل بعد سنوات الاغتراب في الخليج فعدت للسودان في 2000م بينما توجه هو بعائلته لهجرة جديدة في دولة غربية شاسعة المساحة شديدة الترحيب بالمهاجرين وفي 2016م زار السودان للمرة الأولى فالتقينا بعد طول غياب فعن ماذا كان حديثنا ؟ كان صديقي رجل تخصصه الإدارة فركز على ماوجده عن مفهوم الخدمة المدنية وعقيدة الخادم المدني Civil servant في مهجره الجديد.

قال .. هل تصدق يا كمال .. عندنا المواطن يمكن أن يفصل موظف الحكومة ؟!

قال : أولا الموظف الحكومي لديه فهم راسخ أنه خادم المواطن وراتبه من جيب المواطن طالب الخدمة ، وعند الدخول لمكتب حكومي وطلب خدمة وبعد أن تستوفي المطلوبات من مستندات أو خلافه فعلى الموظف أن يخبرك بالزمن الذي سيتم فيه إنجاز معاملتك بالساعات …ثلاث .. 24 ساعة …48 ساعة ، وخلال هذه الفترة يقوم بالاتصال بك لاخبارك عما أنجز.
هذا الموظف لو تلكأ في خدمتك أو تعامل معك بما تتلمس فيه نوعا من العجرفة أو اللامبالاة وقمت بتقديم شكوى ضده وتم التحقيق وأدين فإنه يفصل من عمله فورا ويحظر عليه العمل في أية قطاع حكومي.

حكيت له كيف أنني لا زلت أذكر وبكل أسى منظر ذلك الموظف الحكومي في الخرطوم ذات يوم بداية التسعينات وهو يطرد إمرأة سودانية من مكتبه لمجرد أنها تجرأت وتبرمت أمامه بكل تهذيب من تلكوء وتباطوء شعرت به في قضاء حاجتها.
نعم والله ، طردها منتهرا قائلا : أطلعي بره !!
والتزم الحاضرون الصمت وانسحبت تلك المرأة مهزومة منكسرة.

ذلك الموظف في الخدمة المدنية السودانية نموذج وهو ليس بملوم لأنه درس والتحق بوظيفته باعتبارها سلطة وتشريف لا خدمة وتكليف ولديه احساس بالسيادة والتفضل إزاء المواطن طالب الخدمة وصاحب المصلحة بينما العكس هو الصحيح أن المواطن هو السيد وهو صاحب السلطة والموظف الحكومي هو الخادم.

هذه المعادلة المعكوسة ترسخت في السودان منذ زمن التركية قبل المهدية واستمرت خلال سنوات الحكم الثنائي من 1899م حتى 1956م حتى الآن ولم يسع أحد للتخارج منها لأن السودانيين ومن طول تعايشهم معها ألفوها وظنوها هي الوضع الطبيعي ، ولذلك فحين جمع مؤلف الكتاب الأسود إحصاءاته فقد جمعها وفسرها من الأساس بناءا على فلسفة معيبة وعقيدة معكوسة للخدمة المدنية ، عقيدة مفادها أن الخدمة المدنية سلطة.

إن الحركات الدارفورية تطالب بمخاطبة جذور الأزمة وفي بعض أدبياتهم فإن من جذور الأزمة عدم العدالة في توزيع نسب وظائف الخدمة الوطنية بشقيها المدني والعسكري في سودان يطلقون عليه سودان 56 ، وهذه فلسفة خاطئة ومنهجية مؤسسة على شفا جرف هار ، لأن المطلوب حقيقة ليس إعادة الهيكلة المبنية على المحاصصات السكانية أو الإثنية ، فهذه لن تزيد عللنا الوطنية إلا استفحالا ولن تؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الكفاءة لحساب المحاصصات والإرضاءات وسيدعم الخواجات بكل تأكيد هذه الحلول لأنها تخاطب فينا غرائز الأنانية والاستحواذ بينما تمدنا في الضلالة والتيه بعيدا عن أسباب العدالة والتقدم.

#كمال_حامد 👓