رأي ومقالات

بروفيسور عبد الله محمد أحمد: رحم اللهُ رجلاً سمحاً

ألجأتني مِحنةُ الخرطوم الكبرى ورَحى الحربِ الدائرة فيها إلى قرية صغيرةٍ في أواسط البلاد حين فُتحت يأجوجُ ومأجوجُ فهُم من كلّ حَدَبٍ ينسلون. جيشٌ تجمَّع فيه كلُّ لسنٍ وأمةٍ فما تُفْهِمُ الحُدَّاثَ إلا التراجم، يطأون الأرضَ بأخفافٍ كأخفافِِ النَّعام لسرعتهم، وعسى أن تُسعدَ الأيامُ لأصِفَ بعضَ ما رأيتُ من استحرارِ القتل في العّزَّلِ الآمنين، شيخاً كان أو امرأةً أو طفلاً في غيرِ ما ذنبٍ جنَوه، وإن كان جلالُ الرّزء يدِقّ عن الوصف، ما هؤلاء بشرا!!

ولا تخلو تلك المنافي من العجب فالحياةُ دروسٌ وعبَر. شهدتُ في تلك القرية مشهداً استوقفني لامرأةٍ من النازحات من ذوي القُربى وقفت تُساومُ طفلا من أهلِ القريةِ كلَّفته بكنس فناء الدار فساومته مساومة الأعرابيِّ لحُنين. كان الطفل رثَّ االقمبص ممزق السراويل أشعثَ الشعر حافي القدمين، طلب الطفلُ أربعة جنيهات فقالت المرأة في حزم (جنيهان لا غير) . ولما كنتُ في منزلة من رأى منكم مُنكراً فليُغيرْه بلسانه هتفتُ بها ( اجعليها ثلاثةً) فنقدته الثلاثةَ مُكرهةً وهي تتذمّرُ تذمُّرَ المغبون وانصرف الطفلُ البائس تلهو الريحُ بسِرباله الخلق،. فانتحيتُ بالمرأة ناحيةً وقلتُ لها ( سيدتي، لقد شهِدتُ لأبيك مٌشهداً لا يزال ذكرُه يتلجلجُ في صدري.

كان من كبار المسئولين في الدولة وكنتُ في أواخرِ سنيّ الطفولة. كان يُعدُّ لختان أبنائه فخرج ليشتريَ بعضَ الأغراض وكنتُ أثيراً لديه فاصطحبني معه ومعنا سائقُ السيارة. فقصدنا أولاً سوق النساء. كانت سوقاً لنساءٍ ترمٌْلنَ وافتقرْنَ أو فقدن الكاسبَ فتعفَّفْنَ واخترن الكسب الحلال والمطعم الطيب فانتبذن مكاناً قصياً من سوق الخرطوم الكبرى يبعن فيها المواقدَ والأطباقَ المنسوجة من سعْفِ الدوم وأنيةٌ القهوة المُزخرفة المصنوعة من الخزف والقلانس وغيرها من المصنوعات اليدوية فياخذن ما تدرّه عليهن تلك البضاعةُ المُزجاة من ربحٍ ضئيل فيغشين في أوبتهن سوق الخضارِ واللَّحمِ فيشترين ما يتبلّغن به هنّ وصغارُهن. وقفنا أمام امرأةٍ خمسينيةٍ تبيع المواقد فسألها عن الثمن فأخبرته فنقدها الثمن فوراً وأشار للسائق فوضع الموقد في صندوق السيارة. نظرتُ إليه في عجبٍ وقلتُ( لمَ لمْ تساومْها؟) فقد نشأتُ بين قوم في شرقيِّ البلاد لهم ولعٌ عجيبٍ بالمساومةِ وأذكرُ أنَّ أحد الأعراب جاء من البدوِ وهو يحملُ خطايا في ظرفٍ يريدُ أن يبعثٌ به إلى قريب له أو صديق فذهب إلى مكتب البريد وسأل الموظفََ عن ثمن طابع البريد فذكر له الثمن، فوضع الأعرابيُّ ساقاً على ساق، مُتكئاًً على عصاه وقال لموظف البريد ( ما هو آخِرُ كلامِِك؟) لِيستهلَّ المساومة فاغتاظ موظفُ البريد غيظاً شديداً وقال له ( يا أخي هذه طوابعُ بريدٍ تملكُها الدولةُ ليس فيها أوّلٌّ ولا آخِر) فانصرف الأعرابيُُّ غاضباً وأبي أن يشتري، فأينََ حلاوةُُ المساومة؟ .

لما اعترضتُ على عمي نظر إليَّ نظر العاتب، وقال ( أتريدُني أن أساومَ امرأةً حملتها الحاجةُ وشظفُ العيشِ على الجلوس في الأسواق وهي شرّ الأماكن لتعولََ أطيفالاً صغاراً توفي عنهم أبوهم) كان درساِ لا يُنسى كان رجلاً سمحاً اذا اشترى. قلتُ للمرأةِ( هذا طفلٌ فقد أبوه البصر واضطرته الحاجةُ وحمله العوٌزُ على أن يحملٌ أدواتِ الرجال بدلاً من حقيبة المدرسة وأنتِ تُساومينه، فهلّا صنعت مثل صنيع أبيك؟) وتذكرت قصة الصديق يوسف علي نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان على خزائن أرض مصر فقال لإخوته ( ألا ترونَ أني أوفى الكيلَ وانا خيرُ المنزلين) وكان كذلك هذه هي أخلاق الوزير. ولما رجعوا إليه تارةً أخرى (. قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضْرْ وجئنا ببضاعةٍ مُزجاةٍ فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إنٌّ الله يجزي المتصدِّقين) أهي خزانةُ دولة أم منظمة خيرية!! ولكن يوسف الصديق كان أهلاً للصنيعِ الحسن في كلِّ أحواله. كان أهلاِ للوفاءِ والعفافِ حين قال لامرأة العزير ( معاذَ الله إنه ربي أحسن مثواي) وكان أهلا لعزّةِ النفس حين أبى أنْ يخرجَ من السجنِ منّاً من الملك إلّا أن تُبرَّأ ساحتُه فرد الرسولٌ الذي بعثه الملكُ قائلاً ( ارجعْ إلى ربِّك فاسألهُ ما بالُ النسوةِ اللائي قطَّعن أيديهنّ) وكان أهلاً للبرِّ والإحسانِ وهو على خزائنِِ مصر، يُكرمُ وَفادةِ التُّجَّار، سمحاً في بيعِِه وشرائه، وكان سمحاً صفوحاً حين قال لإخوته حينَ التمسوا الصفحََ ( لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين )
أليس لنا في قَصَصهم عبرة؟

بروفيسور عبد الله محمد أحمد