عادل عسوم: رؤية مغايرة عن هاروت وماروت
الكثير منا يفهم -خطأ- أن هاروت وماروت -وهما من الملائكة أنهم كفروا أو أخطأوا عندما فعلا مافعلا.
لقد عكفت على الآيات التي نزلت في حقهما، وقرأت كل الأحاديث والأقوال التي وردت في شأنهما فوجدتهما بغير مايتبادر إلى اذهان بعضنا أو الكثير منا على الأصح.
لنقرأ معا الآية العمدة التي وردت في ذلك ولنقرأ كذلك سبب النزول وبعض تفاسير المفسرين:
يقول الله تعالى في سورة البقرة:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} البقرة.
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنّ اليهود في المدينة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السحر عندما سمعوا بذكر سيدنا سليمان عليه السلام في القرآن، وقالوا إنّ محمدًا يدّعي أنّ ابن داوود كان نبيًا وهم لا يرونه كذلك، بل هو برأيهم ساحرٌ سخر الجن والشياطين لخدمته، فنزلت هذه الآية لتكذب أقوالهم ولتبرئ سليمان بن داوود عليهما السلام مما ينسبونه إليه من تهم وافتراءات.
أما (هاروت وماروت) فهما ملكين -بفتح اللام والكاف- كريمين، وقد ورد بأنه عندما نبذ اليهود كتابهم واتجهوا إلى السحر والشعوذة في زمن الملك سليمان عليه السلام؛ كانت الشياطين تعاونهم على السحر، فتصعد إلى السماء الدنيا وتسترق السمعَ لتنقل أخبار الملائكة وأحاديثهم إلى الكهنَة الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيبَ فيُخبرونهم بماسمعوه، ثمّ يقوم الكهنة بإدخال ذلك في أخبارهم وتدوينها في كتبهم ويقرأونها ويعلّمونها للناس، وساد بينهم أنّ الجن والشياطين تعلم الغيب، وزعموا أيضا بأنّ علم سليمان لا يكتمل إلا بما يأتون به.
وقتها أنزل الله الملكين هاروت وماروت في أرض بابل ليعلما الناس السحر لأسباب أهمّها فضح وكسر احتكار الكهنة للعلم، وقد كانا ابتلاء من الله لهم.
وكان هاروت وماروت عندما يعلمان أحدا عِلمهما ينصحانه بأنهما ابتلاء من الله، وإنّ من يتعلم علمهما ويعتقده ويعمل به فإنه كافر يخسر آخرته، ومن يتعلَّمه ولا يمارسه ثم يتوفاه الله ثابتًا على الإيمان يجزيه الله بصبره على المعصية، فتعلّم الناس السحر من هاروت وماروت، وكان مما فيه القدرة على التفريق بين الزوجين ولكن بإذن الله، وكان في سحرهم إضرار بالناس، اذ يتعلّم الناس ما يضرهم ويضر غيرهم، ولا ينفعهم بشيء في الآخرة، ولكن لا يستطيعون الاضرار بأحد إلا بإذن الله لأن السحر لا يؤثر بنفسه، بل بأمر الله ومشيئته.
أقول وبالله التوفيق:
1- هاروت وماروت من الملائكة، والإيمان بالملائكة عند أهل السنة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا
به، فمن لم يؤمن بالملائكة، أو آمن ببعضهم وترك البقية فهو كافر بالله سبحانه وتعالى.
وللملائكة أجسام نورانية، أُعطيت قدرةً على التشكل والظهور بأشكال مختلفة، ولهم
صفات ووظائف خاصة يتميزون بها عن الإنس والجن، وأنهم (لا يتصرفون ولايعملون عملًا إلا بأمر الله)، فهم لا يعصُون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم
أكثر الخلق عبادةً لله سبحانه وتعالى، يُسبحون الليل والنهار لا يفترون.
وهاروت وماروت بذلك لايعصون الله لكونهم من الملائكة، وهما كما نصت الآية الكريمة أعلاه مأمورون بأداء مهمة بعينها وهي تعليم الناس السحر، وقد تبين في سبب النزول وتفسير الآية الغرض من تعليم هذين الملكين الناس السحر والتبرير لذلك.
2- كما وضح من قول هاروت وماروت فإنهما تم تكليفهما من الله تعليم الناس السحر ليتبينوا بأن مايفعله الكهنة حينها لاعلاقة له بدين ولا صلة بأوامر يقولون بأنهم يتلقونها من الله، وبذلك فإن تعليمهم الناس السحر حينها مبرر ومقبول (طالما كانوا يحذرون الناس من مغبة وحرمة استخدامه لأغراض تضر بالناس، ومن ذلك التفريق بين الزوج وزوجه).
3- السحر في أصله علم من العلوم، ولولا أنه في دين الإسلام محرم فعله وتعليمه؛ إلا إنه علم من العلوم، ولع أكثر العلوم شبها به علم الصيدلة، فإن الصيدلي يمكنه -أيضا- تصنيع سموم تقتل الناس وتسبب لهم الأمراض، وكذلك علم الكيمياء، وعلم الPhysical Chemistry، كلها علوم فيها جانب ضار يمكن لصاحبها الاضرار بالناس ان سعى إليه صاحبها.
وعلى ضوء ذلك فإنني لا أتفق مع الأقوال التي (تجرم) هاروت وماروت عليهما السلام، وللعلم فإنه لم يصح حديث نبوي مما ورد في تجريمهما. والله أعلم.
إن يك ماذهبت إليه صوابا فمن عند الله، وإن يك خطأ فمن قبلي والشيطان.
عادل عسوم