سقوط المثقف.. المريود مثالا
كنت من المعجبين جدا بكتابات عبد الحفيظ مريود، ليس لمجرد انه كاتب يمتلك ادوات الكتابة التقنية، فالكتاب الجيدون كثيرون من هذه الناحية، ولكن لانها كانت متماسكة، منطقية والأهم انها كانت تستند على موقف اخلاقي، مع حس فكاهي نادر في الكتاب السودانيين. لم اكن اتفق بالطبع مع كل كتاباته، ولكن حتى مع الاختلاف، كانت كتاباته تنير جانب ما، غائب عني.
لدي حساسية شديدة تجاه عدم الاتساق، ولربما كان هذا السبب الرئيس في نفوري من كتابات المثقفين الحزبيين الذين يعميهم الانتماء عن الاتساق في طرح افكارهم، بل يقومون بلي عنق الحقائق لتطويعها لخدمة اغراضهم. كنت أظن (المريود) معافى من هذا المرض، حتى قرأت اراءه عن الحرب الدائرة الان. ربما نحتاج الى المحن حتى تنكشف معادن الرجال.
بداية لا يبدو هناك أي سبب منطقي، أو اخلاقي يدعم الوقوف الى جانب الدعم السريع في الحرب الحالية، حتى القوى السياسية التي تشكل غطاء له لا تستطيع أن تجاهر بوقوفها في صفه علانية. الوقوف الى جانب هؤلاء المتمردين لا يخرج من أمرين: الاول هو الانتماء القبلي والثاني هو المنافع الشخصية المترتبة على العمل كمرتزق لمصلحتهم. لا أدري حقيقة ما هو تصنيف (المريود) هنا.
السؤال الذي يتبادر للاذهان هنا لماذا لايوجد سند أخلاقي للوقوف مع الدعم السريع؟ الاجابة ببساطة لان الدعم السريع لا تحركه الا شهوة السلطة والطموح القاتل لقائده. الدعم السريع ليس حركة مسلحة قامت نتيجة لمظالم سياسة او اجتماعية. ليس له منفيستو سياسي أو دعاوي مطلبية قبل هذه الحرب. فجأءة مع بداية هذه الحرب ظهر مثقفو الايجار ليحدثونا عن دولة 56، وعن المظالم التاريخية. مشكلة هذا الادعاء انه لا يصمد اذا سألنا عن ذنب من قتلوا وهجروا وانتهكوا في الجنينة وفي عموم مدن غرب السودان. هل هؤلاء جزء من أزمة دولة 56 ام ضحايا لها؟ الحقيقة أن هؤلاء المتمردين ما دخلوا مدينة الا افسدوا فيها وجعلوا أعزة اهلها أذلة. لا فرق هنا بين الخرطوم والجنينة، بين اهل الشمال أو اهل الغرب، بين نخبة دولة 56 او بين ضحاياها. لأسباب مثل هذه ستجد أن جزء ممن وقفوا بصلابة ضد الدعم السريع، منظرين لنظرية المركز والهامش واعداء تاريخيين لدولة 56 هذه، محمدجلال هاشم وبركة ساكن مثالا. فمن وقفوا ضد الدعم السريع ليس الاسلاميين فقط كما يحاول (مريود) أن يؤطر. وهذا يقودنا للدعوى الثانية التي يحاول الدعامة عن طريقها ايجاد مبرر اخلاقي لحربهم. فهم يحاربون الكيزان(بكسر الكاف) ويسعون لجلب الديمقراطية. راعي الضأن في الخلا يعرف ان هذا ادعاء كذوب لا يسنده الا (المريود) ومثقفي الايجار. الحقيقة ان حميدتي لا خلاف منهجي او فكري له مع الكيزان وهويستعمل نفس الخطاب الاسلامي، ويصيح جنوده (الله أكبر) ايضا. لكن طبعا حميدتي اصلا لافكر ولا دين له.هو يميل حيث ما وجهته بوصلة الشهوة الى السلطة. يريدنا (المريود) وملاءه أن ننسى بانه قبل خمسة سنين لما قام نفر من أهل المؤتمر الوطني بمحاولة اقناع البشير بالعدول عن الترشح للرئاسة، أنبرى حميتي وأخوه وقالوا (البشير يترشح في راس أي زول). عايزننا ننسى جنود الدعم السريع لمن كانوا بيطأوا في رقاب الناس عشان يقولوا (عسكريييييية)، ومفروض ننسى برضوا انه حميتى مسح بحلفاءه القحاتة الحاليين الارض اكتر من مرة في الاربعة سنين الفاتت لمن كانوا مصدعين راسنا بالكلام عن الديمقراطية.
الواقع، معظم ممن تضرروا من الدعم السريع في الخرطوم والمدن الاخرى هم السواد الاعظم من السودانيين العاديين، ويحسب للاسلاميين انهم وقوفوا الموقف الصحيح في الدفاع عن عامة الناس وفي مساندة الجيش. والحقيقة هي أن الدعم السريع خطر وجودي على الدولة السودانية كلها بكيزانها وقحاتتها وناسها الساي بمن فيهم (المريود) نفسه.
في فديو منشور على الانترنت يحدثنا (المريود) وفي منبر من منابر الاسلاميين عن انه كيف يتم تذويب وتفكيك ما تبقى من الاسلام عن طريق اتفاقية العصر، عن كيف يتم هذا الامرمن النيجر ومالي مرورا بالسودان والى شرق افريقيا. يحاضرنا عن أن هذا الامر يبدأ بتفكيك مؤسسات الدولة الاساسية بداء من المؤسسات الامنية، ويضرب لنا مثلا بالجيش العراقي، قال نصا عن الجيش العراقي (الليلة بفتشوا عشان يرجعوه غالبهم…ببكوا …..الملشيات دي البوقفها شنو). يخبرنا بأن الجهة التى يتم استهدافها حاليا هي الجيش السوداني، قال عنها نصا ( الجهة الوحيدة الحامية أرض السودان)، يقول المريود (قدس الله سره)مشيرا الي الجيش السوداني: (وأول ما تنتهي المؤسسة دي ستستبيحك الجيوش الغازية….راجنك زي العقبان حايمين كده دايرين الجثة دي تهمد بس….الداير البترول، والداير الدهب، والداير الاراضي).
تعال معي يا عزيزي القارئ لنرى كيف يصف (المريود) الجيش في أخر مقالاته. يقول (مد الله ظله الشريف): (لم يكسب الاسلاميون “معركة الكرامة” ببساطة لانهم يخدعون أنفسهم….يظنون أن المليشيا التي تم تكوينها تنظيميا، من الدفعة 39، الكلية الحربية، هي “جيش قومي”)……. فتأمل يا عزيزي القارئ و أدي ربك العجب. غايتو الشكر للانترنت ومن اخترعه لانه سمح بهذا التوثيق.
عموما يا سيد عبدالحفيظ، سوى انتصر الجيش أو هزم، مات حميتي أو دخل القصر الجمهوري حاكما، انتهت هذه الحرب الان او استمرت لعقد من الزمن، تظل هذه الحرب من أعدل واوضح المعارك من حيث الحق والباطل التي خاضها الجيش السوداني منذ الاستقلال. وتذكر يا (المريود) ، أن التناقض هو مقبرة المنطق والاتساق. والافكار التي تحمل اقل قدر من التناقض داخلها هي التي تسود في النهاية. هدانا الله واياكم الى سواء السبيل وازال عن عينيك الغشاوة وجنبك مزالق الهوى.
غايتو الدعوات الاخيرة دي دافعها الاعجاب يوما ما بما كنت تكتب.
مصعب عبدالرحمن مجذوب