المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (12)
المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (12)
نيروبي (4-ب)
وبادرت في 1994، وأنا آنئذ دبلوماسي بنيروبي بالكتابة للرئيس عبر وكيل الخارجية السفير عمر بريدو، وبصورة لدكتور على الحاج، مسؤول ملف الجنوب، مقترحاً أن تبادر الدولة لفصل الجنوب، وكانت رؤيتي مبنية على الآتي:
– أن الجنوبيين قاتلونا لعشرات السنين، وأن حقيقة هدفهم الانفصال؛ وأنه لا يمكن أن يقاتل الإنسان ويموت إلاّ إذا كان مقتنعاً بهدف نبيل مثل الحرية.
– أن جوهر أدبيات الحركة الشعبية وخطابات قرنق هو المطالبة بالانفصال، أو “حق تقرير المصير”، كما أثبتوه في اتفاقهم مع المعارضة في 1995.
– أن قرنق يجهر بذلك في لقاءاته بالغربيين، وهؤلاء يحثونه على المُضي في هذا التوجه كونه استراتيجيتهم.
– أنه لن تُتّهم الحكومة بأنها فصلت الجنوب عن ضعف؛ لأنها استرجعت كل المدن والحاميات من التمرد عبر عملية “صيف العبور”.
– أن الجنوب لن يشكل خطراً يذكر على الشمال إذا استقل؛ لأنه دولة حبيسة “Land Locked”؛ وأن القبلية ستضعفه أكثر؛ وأن التكوين القبلي لجيشه سيبقيه هشاً.
– أن الجنوب سيعتمد اقتصادياً على الشمال، وهذا مفيد لاقتصادنا.
– أنه ومنذ الاستقلال لم يساهم الجنوب في دعم الخزينة العامة إلاّ بعد أن استخرجنا البترول؛ وأن إيقاف الإنفاق على الحرب، وتوفير إعاشة ثلاثة ملايين جنوبي في الشمال، وإيجاد موارد بديلة عن البترول الجنوبي يمكن أن تغطي العجز بحسن إدارة الاقتصاد.
كنت على قناعة أننا كشماليين لم نكن أمينين في تناولنا ومعالجاتنا لقضية الجنوب؛ وأننا كنا بكل أسف ننظر لهم بتعال وغطرسة؛ وأننا ومنذ الاستقلال كنا لا نقدم لهم سوى الوعود، لكنها وعود سراب بلا فعل مُنتِج، أو كما يقول الخواجة:
“If you don’t walk the walk , it’s probably best not to talk the talk political hypocrisy”
والوعود في هذه الحالة بلا فعلٍ نفاقٌ سياسي.
نزح للشمال خلال الحرب ثلاثة ملايين جنوبي، لكن أيّاً من الطرفين لم يسعَ بجد للاندماج.. وظل الطرفان متباعدين اجتماعياً.
لم تكن القيادات الجنوبية أمينة حين أخفت نواياها الانفصالية، حتى عن حلفائها الشيوعيين، والذين في التجمع الوطني. وكنت موقناً أن الجنوبيين يستغلون الشيوعيين بإيهامهم أنهم وحدويون.
ولم ينتبه أحد إلى حديث قرنق عن ضرورة إقامة منطقة عازلة Buffer Zone بين الجنوب والشمال.
وهل يقيم منطقة عازلة إلاّ من يخطط لانفصال؟!!
بلع الشيوعيون الداعمون لقرنق الطُعم، واستغلهم فأقام بهم الحركة الشعبية/ شمال.
وكانت صدمتهم when it was too late حين شاهدوا نخب الجنوبيين يروجون للانفصال؛ ثم نبذهم لعرمان حين ترشح للرئاسة!!!
أثارت مبادرتي بالمطالبة بفصل الجنوب موجة عارمة من الغضب عليّ، وجوبهتُ بانتقادات حادة من كبار مسؤولي الدولة..
ووصلت مبادرتي لدكتور الترابي – رحمه الله – رغم أنني لم أخاطبه بها.
وبلغني أن أشد الغاضبين عليّ كان دكتور الترابي نفسه.
السفير عبد الله الأزرق