هل فكر البرهان وعلم أن السند الداخلي أهم من الدعم الخارجي؟
سمى البرهان معركة أهل السودان والقوات المسلحة الحالية الحرب الوجودية، انتصرت فيها الآن الإرادة الوطنية الشعبية المتضامنة مع قواتها المسلحة أو كادت.
فما الذي تعنيه “الحرب الوجودية”؟ وماذا يترتب من نتائج على هذا النوع من الحروب؟ وهل استصحب البرهان معه من الناحية الإستراتيجية في جولاته الخارجية -التي قام بها إلى كل من مصر وجنوب السودان وقطر وإرتيريا وتركيا ويوغندا، وربما تأخذه إلى محطات أخرى- معه رؤية سياسية ضابطة ومحكمة ترسم ملامح توجهات السودان لعلاقته الخارجية بعد “الحرب الوجودية”؟ أم أن الرحلات الخارجية كانت فقط لإظهار قوة المنتصر وصاحب الكعب الأعلى؟
وما هي الرسائل والعناوين التي حملها البرهان لتلك الدول؟ وما الذي يريده البرهان منها؟ وما الردود التي تلقاها من حكومات الدول التي زارها؟ وما الذي يقتضيه الواقع من خطاب للداخل؟
هل فكر البرهان وعلم أن السند الداخلي أهم من الدعم الخارجي لأنه يمثل عونه الحقيقي الذي يقوي ظهره ويستمد منه شرعيته ورؤيته السياسية التي يريد إيصالها للخارج، والتي تصاغ من وحي مطلوبات السياسة الداخلية
ألم يكن من الأجدى للبرهان سياسيا أن يخاطب الرأي العام الداخلي قبل الخارج، لأن الداخل هو صاحب المصلحة الحقيقية والأولى في القضية، وهو صاحب “الإرادة والتضامن الشعبي” والحليف الأبرز والظهير القوي لجيشه، لماذا لم يتم تنوير الداخل بمعنى “الحرب الوجودية” التي دارت، وأنه -أي الشعب السوداني- هو الذي كان مستهدفا بها ديمغرافيا؟
وما هو حجم المخطط الوجودي؟ وما هي الأطراف الدولية والإقليمية المشاركة فيه والداعمة لها؟ وهل قوات التمرد والقوى السياسية المساندة له هي صاحبة المخطط أو لها نصيب فيه أم هي مجرد أدوات مستخدمة من قبل المخططين، لأن المعركة أكبر من قوات التمرد وداعميه في الداخل؟ ولمصلحة من وقعت الحرب؟ وما هي الأهداف الكلية للمخططين والمنفذين؟
وهل فكر البرهان وعلم أن السند الداخلي أهم من الدعم الخارجي لأنه يمثل عونه الحقيقي الذي يقوي ظهره ويستمد منه شرعيته ورؤيته السياسية التي يريد إيصالها للخارج، والتي تصاغ من وحي مطلوبات السياسة الداخلية؟
وقع البرهان سياسيا في الأخطاء ذاتها التي تقع فيها بعض القوى السياسية السودانية كالعادة، وهي “نظرية الاستعلاء السياسي”، والتي تتمثل في الاستمرار في إهمال الرأي العام الداخلي والحديث باسمه وادعاء تمثيله دون الاستماع إليه
إن المطابخ السياسية المحترفة للدول تدير نشاطها ولعبتها السياسية وفقا لمصالحها في عالم اليوم، ولقد وقع البرهان سياسيا في الأخطاء ذاتها التي تقع فيها بعض القوى السياسية السودانية كالعادة وهي “نظرية الاستعلاء السياسي”، والتي تتمثل في الاستمرار في إهمال الرأي العام الداخلي والحديث باسمه وادعاء تمثيله دون الاستماع إليه.
إن المتابعين -خاصة من فقهاء السياسة من أهل التخطيط والرأي- يتمحور طرحهم حول بعض الأسئلة الحائرة التي لا تزال تدور، وأهمها: لماذا اتجهت الحرب إلى كل ما اتجهت إليه من قبل قوات التمرد من تدمير ممنهج للممتلكات العامة والخاصة؟ ولماذا اتجهت قوات التمرد لإفراغ سموم الانتقام والغبن من المجتمع والدولة على السواء، تدمير ممنهج وكامل للمستشفيات ومراكز الخدمات والمياه والكهرباء والأراضي والتسجيلات والجامعات والوزارات ودور العبادة ودور النشر والمكتبات العامة والأسواق ومنازل المواطنين؟
والسؤال المحوري: لماذا لم تحصر قوات التمرد عملها العسكري في إطار “الانقلاب العسكري” فقط، إما أن ينجح هذه الانقلاب وتسيطر بالتالي على موارد البلاد والعباد، وهذا بفضل الله وعنايته ورعايته لم ينجح، أو يفشل الانقلاب ويقاد منفذوه من القيادات المتمردة للمحاكمات العسكرية وفقا لقوانين القوات المسلحة ولوائحها؟
شهد السودان على مر الحقب السياسية العديد من الانقلابات العسكرية من قبل تنظيمات عسكرية وسياسية رغبت في الاستيلاء على السلطة، ولكنها لم تدمر البنية التحية للبلاد أو ممتلكات المواطنين على الإطلاق نجح انقلابها أو فشل
لقد شهد السودان على مر الحقب السياسية العديد من الانقلابات العسكرية من قبل تنظيمات عسكرية وسياسية رغبت في الاستيلاء على السلطة، ولكنها لم تدمر البنية التحية للبلاد أو ممتلكات المواطنين على الإطلاق نجح انقلابها أو فشل، وهو الأمر الراسخ عند السودانيين.
ألا تستحق كل هذه الأسئلة إجابات من البرهان حتى يستطيع مع مساعديه ترتيب وصياغة رسالته السياسية المنقولة من الداخل للخارج الذي لا يستمع ولا يدير مصالحه إلا مع من هو أقوى حجة وأبلغ رسالة.
ولماذا كل هذا الصمت والتأني من قبل القوات المسلحة عن كشف المشاركين في المخطط الآثم دولا كانت أو أجهزة مخابرات أو كيانات أو جماعات، فالذي حدث لم يكن حجمه ضئيلا، إنها حرب وجودية كما سماها البرهان بنفسه في خطابه عشية عيد الأضحى الماضي.
إن الطرح المنطقي والواقعي لصياغة الواقع السوداني لمرحلة ما بعد الحرب هو تشكيل مجلس من أهل “الحل والعقد” من النخب والقوى المدنية الحية والفاعلة وبتمثيل محدود لا يتجاوز عشرة أشخاص يتحلون بمهنية وثقة عالية، يكلفون بكتابة الهوية السودانية والجامعة والتوجه المعبر لقيم ومبادئ أهل السودان ومعتقداتهم، صياغة تشكل دليلا لمرحلة جديدة عنوانها الأبرز “المحددات الإستراتيجية للأمة السودانية” بها تصوغ دستورها وتقدم كتابها المعبر عن أشواقها وطموحها وآمالها لبناء وطن آمن ومزدهر ومستقر.
إن الضرورات السياسية لسودان ما بعد الحرب تقتضي من عبد الفتاح البرهان والقوات المسلحة تشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات الوطنية المستقلة غير الملتزمة سياسيا (التكنوقراط) وما أكثرهم، لإدارة مرحلة انتقالية لعام واحد تمهد لانتقال سياسي وانتخابات عامة في البلاد تحت إشراف الجيش ومجلس الحل والعقد، مهامها قيادة البلاد لمرحلة ما بعد الحرب سياسيا وتنمويا واقتصاديا واجتماعيا، للخروج من الإفرازات المؤلمة للحرب على هذه الصعد كافة، يتولى مجلس الحل والعقد تحديد برنامجها على مستوى السياسة الداخلية والخارجية للبلاد وإعادة المحكمة الدستورية العليا وكتابة دستور تمهيدي لإدارة شؤون البلاد، يستند إلى دستور العام 2005 الانتقالي، والذي يعد من أفضل ما كتب من الدساتير والقوانين التي ترعى الحقوق والمواثيق لأي أمة من الأمم.
إن الدساتير يكتبها القانونيون والدستوريون المتخصصون ولا يكتبها السياسيون المتنافسون، هكذا تقول التجارب المماثلة للعديد من الدول والأمم التي نهضت وتقدمت بفضل وحدة رأيها واجتماع شملها
إن مرحلة الحساب بعد انجلاء غبار المعركة قادمة لا محالة بعد اكتمال التحريات وجمع الأدلة، فالجزاء من جنس العمل، فلن تكون هناك فرصة للإفلات من العقاب في حق عام أو خاص، خاصة لمن كان سببا في اندلاع الحرب المأساة فعلا أو تصريحا أو تلميحا.
وأرى أن على السلطة الانتقالية ومجلس الحل والعقد تشكيل لجنة دستورية وقانونية لكتابة دستور دائم لأهل السودان ينظم الحياة السياسية بعيدا عن التجاذبات السياسية والاستقطاب الحاد، وألا تفتح كتابة الدستور للقوى السياسية المتشاكسة والمتنافسة بأسلوب يعقد الوصول إليه كعقد اجتماعي مطلوب على أعجل ما تيسر لحاجة البلاد الماسة لتحقيق الإجماع الوطني الشامل.
إن الدساتير يكتبها القانونيون والدستوريون المتخصصون ولا يكتبها السياسيون المتنافسون، هكذا تقول التجارب المماثلة للعديد من الدول والأمم التي نهضت وتقدمت بفضل وحدة رأيها وجماع شملها، وإلا فإن البديل هو الضياع والشتات، فهل ندرك أهمية الاعتصام بالرأي وإلفة القلوب والعقول قبل فوات الأوان؟
وقديما قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي:
لا افتخار إلا لمن لا يضام .. مدرك أو محارب لا ينام
ذل من يغبط الذليل بعيش .. رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار .. حجة لاجئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام.
مامون عثمان – الجزيرة نت
السودان ومرحلة البناء الوجودي بعد الحرب