السفير عبد الله الأزرق: 📍المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية (3)
في عهد الرئيس نميري أعلنت حكومة منقستو هايلي مريام مندوب جهاز الأمن السوداني شخصاً غير مرغوب فيه Persona non grata، وهو يحمل الصفة الدبلوماسية.
وإمعاناً في إذلاله، ومن ثم إهانة بلده، قاموا بتفتيش حقيبته بالمطار، ووجدوا ” باكوات ” سجائر، ففتحوها وأخرجوا السجائر سجارة إثر أخرى، وتركوها مرمية على الأرض متعللين بأنه ربما يهرب شيئاً.. ثم طلبوا منه خلع ملابسه فخلعها، وأبقوا له الملابس الداخلية. فلما فرغوا قالوا له: يمكنك وضع ملابسك.. فقال لهم: لكنكم لم تفتشوا ملابسي الداخلية!! وقام بخلعها، وبقي عرياناً.. فما كان منهم إلاّ أن هربوا خجلين مذعورين.
وإعلان الدبلوماسي (شخصاً غير مرغوب فيه) هي البديل الدبلوماسي المخفف للطرد.. ولا يعيب ذلك الدبلوماسي إلاّ إذا كان طُرد لجريمة ارتكبها، أو أتى فعلاً مخلاً بالشرف والمروءة، أو أهمل بطريقة كشفت عن أمر تخفيه بلاده ، وأزعج الدولة المضيفة لدى اكتشافها للسر .
وعادة يؤدي إعلان الدبلوماسي شخصاً غير مرغوب فيه إلى حرمانه من المجاملات الدبلوماسية والامتيازات التي كان يمكن أن يستمتع بها لدى المغادرة.
وقد طردت تركيا السفير الإسرائيلي لديها في مايو 2018.. وفي المطار، قامت السلطات بتفتيشه تفتيشاً جسدياً، وأرغم على استخدام صالة المغادرة العادية.
وكما أسلفت، فقد تستخدم الدولة المضيفة أساليب خبيثة للتخلص من دبلوماسي أو سفير لا تستلطفه.
ولدى دولة عربية إدارة بجهاز الأمن والمخابرات تسمى إدارة السيطرة Control، تقوم بتصوير الشخصية المستهدفة بالإبعاد أو الابتزاز في أوضاع معيبة ومخجلة.
وقد استدرجت تلك الإدارة أحد سفراء السودان في عهد نميري ( ذلك الفارس حيّاه الغمام ) عبر فتاة جميلة، وصورته كما ولدته أمه.. وكان ذلك السفير مُجيداً في عمله، وذا شخصية قوية، ويَعرف نميري أن ذلك البلد يستهدف السفير.. ولأن ذلك البلد كان يريد إبعاد السفير بعثت بالصور لنميري، ولكن النميري (أيام جاهليته) ضحك، وعبر عن إعجابه ببعض ما لدى الرجل !!! ، وتركه في منصبه في تلك العاصمة.. ولم يجدِ كيدهم شيئاً.
بعامة، يظل ثالوث: المال والخمر والنساء، هو مُهلِك الدبلوماسيين.. وحتى كبار المسؤولين والسياسيين يُخضعون للابتزاز عبر هذا الثالوث، وأخطر أضلاعه النساء الجميلات!!!
وعادة تتدرج الدول في الاحتجاج على بعضها بطرق تتعدد صورها وأنواعها، وتتراوح ما بين “رسائل احتجاج”، و”استدعاء السفير للتشاور”، و”خفض التمثيل”، و”إعلان السفير شخصا غير مرغوب فيه”، و”قطع العلاقات”.
ويُعاب على الدبلوماسي أن يتفوّه بعبارات تثير الامتعاض ولو على سبيل الدعابة.. ومن هذا ما سجله التاريخ على سير هنري ووتون SIR Henry Wotten سفير الملك جيمس الأول، ملك بريطانيا، لدى البندقية، الذي كتب في دفتر الزوار (1604 م):
“السفير رجل نزيه ترسله بلاده للخارج ليكذب لمصلحتها ”
“An ambassador is an honest man sent to lie abroad for the good of his country.”
وألقت به تلك العبارة في غياهب التجاهل بعد أن كان محظياً لدى الملك.
ويُروى أنه طرد في نفس اليوم الذي كتب فيه تلك العبارة المعيبة، رغم محاولته تبريرها بقوله إنه كان يمزح!!!
أمًا ما يثير حفيظة الدول، ويدفعها لطرد الدبلوماسيين فهو التدخل في شؤونها الداخلية وانتهاك سيادتها وكرامتها.
ومن ذلك طرد الرئيس التركي 10 من السفراء بقرار واحد وفي يوم واحد، وهم سفراء دول غربية كبرى منهم السفير الأميركي، والبريطاني، والفرنسي، والألماني.
وكان سبب الطرد أنهم احتجوا في مسعى دبلوماسي جماعي Diplomatic Demarches على حكم محكمة بسجن المعارض عثمان كفالا، ووصفهم أردوغان بأنهم “يفتقرون للباقة”.. ولم يُنجِهِم من الطرد إلاّ اعتذار كل واحدٍ منهم منفرداً كتابةً!!!
عُرف عن الرئيس البشير عدم تهاونه في مسألة الكرامة وانتهاك سيادة الدولة..
ولهذا طرد بيتر استريمز سفير بريطانيا عام 1993.. واتُّهِم ستريمز بموالاة حركة قرنق المتمردة، ودعم موقف كبير أساقفة كنتربري الذي وصل لجنوب السودان ورفض زيارة الخرطوم.
وطرد البشير مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة يان برونك Jan Pronk في 2006؛ لتدخله في الشؤون الداخلية، وتجاوز حدود ولايته.
ومن عجايب عمليات الطرد أن الرئيس الروسي بوتن أعلن استعداده لطرد 755 دبلوماسياً أمريكياً في 2017!!
وخلال حرب روسيا مع أوكرانيا، تبادلت روسيا مع الدول الغربية طرد عشرات الدبلوماسيين.
وفي أحيان قليلة، تبقي بعض الدول سفارتها مفتوحة وهي في حالة حرب مع دولة أخرى.
وطردت الصومال مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة نيكولاس هايسوم الذي كان مرشحاً مع آخرين ليرأس يونيتامس في السودان.. اتهمته الصومال بأنه يتصرف كأنه حاكم البلاد.. وهايسوم محامي من بيض جنوب أفريقيا.
ارتبطت الدبلوماسية بالجاسوسية.. وكانت السفارات من أكبر مسارحها، بخاصة إبّان الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية.
وكان كيم فيلبي Kim Philby الذي كان ضابطاً بالمخابرات الخارجية البريطانية MI6 وسكرتيراً أول بسفارة بريطانيا بواشنطن ،أشهر من جندته المخابرات السوفياتية، واخترق الجهاز البريطاني مزوداً الروس بمعلومات عالية القيمة.. ولم يُكتشف إلاّ بعد اكتشاف ما عُرِفَ بخلية كمبردج، المكونة من خمسة جواسيس يعملون لصالح الروس، عام 1963.
وفي عهد الإنقاذ، اكتشف جهاز الأمن السوداني اثنين من الجواسيس، أحدهما يعمل في وحدة الاتصالات بوزارة الخارجية، وهي وحدة شديدة الحساسية. وقد ألقي عليه القبض بمطار الخرطوم ومعه أجهزة كمبيوتر وجهاز تخزين معلومات، وكانت مليئة بكل الرسائل الصادرة من الخارجية أو واردة لها لعامٍ كامل ، من كل سفاراتها بالعالم.
أما الثاني ويسمى خالد إدريس، كان يعمل إدارياً برئاسة الوزارة، وكان يسرق الوثائق ويبيعها لسفارات بالخرطوم. وقد قبض عليه وثبت جُرمه وسُجن.. ثم أطلق سراحه بعفو رئاسي، بوساطة من السيد الصادق المهدي.
المخزي بالفعل أنه أُرجع للعمل بالخارجية، بقرار المحكمة التي أرجعت مفصولي لجنة تمكين قحت، وهو يعمل اليوم بسفارة السودان بكيقالي!!!
أرجح أنه لم تتوفر للمحكمة بيانات كافية عن الماضي المخزي للفتى!
والمؤسف أن الخارجية في عهد قحت لم تستأنف قرار المحكمة..
وظل الفتى عضواً نشطاً بلجنة تمكين قحت بوزارة الخارجية!!
وجراء إحساسه بالحماية من جماعة قحت، كان يكتب المقالات ضد نظام الفلول والكيزان الذين دمروا السودان!!!
استوعبه القحاتة في الخارجية وضموه؛ لأنهم لا يعلمون أن الجواسيس كالحرباء يستطيعون أن يتلاءموا مع محيطهم دائماً.
Spies are chameleons always adapting to their surrounding
أو أنهم لا يعنيهم أن يبقى الجاسوس بينهم، لتعودهم على ” التقرّب ” من الأجانب.
الجاسوس لا يترك التجسس؛ لأنه التجسس يصير حالة ذهنية mentality تعودت على العيش بشخصيتين، كما قال جون لو كاريه John le Carré، الذي كان في 5MI ثم في 6MI، وألّف عدداً من الكتب والروايات في التجسس والعمالة. وقال:
إن الذي يتجسس يصبح الكذب عادة لديه، وقد يخترع الكذبة اختراعاً.
وقال هو وغيره من المختصين: إن الذي يتجسس مرة لن يترك التجسس طيلة حياته.
ولكن، ولتفوقنا في كل شيء، ها نحن نثق بجاسوس مُدان، ونأتمنه على مكمن أسرارنا!!!
بهذا، سيكون من حق السودان أن يفخر بأنه البلد الوحيد في العام الذي أعاد تعيين جاسوس مُدَان، في نفس المؤسسة الحساسة التي كان يتجسس عليها!!!
السفير عبد الله الأزرق