رأي ومقالات

السودان من المنظور الديني والاستراتيجي الصهيوني

ثمة تشابه كبير بين ما جرى في السودان منذ عام 2019 وما جرى في فلسطين قبل إعلان قيام “دولة” الكيان الصهيوني في 15 أيار/مايو 1948.

يحظى السودان بأهمية كبيرة في منظومة التفكير والعقائد الصهيونية، ويعد الكتاب المقدس أهم مصدر لهذا الاهتمام، فقد ورد اسم السودان فيه 55 مرة تحت اسم “كوش”، ووصفه بأرض حفيف الأجنحة. وقد جاء في سفر إشعياء الآية 520: “يا أرض حفيف الأجنحة التي عبر أنهار كوش”، وجعلها السفر ذاته رجاءً حين قال: “فَيَرْتَاعُونَ وَيَخْجَلُونَ مِنْ أَجْلِ كُوشَ رَجَائِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ مِصْرَ فَخْرِهِمْ”.

وجاء في سفر إشعياء 433: “لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، مُخَلِّصُكَ جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ، كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ”، وجاء في سفر عاموس 79: “أَلَسْتُمْ لِي كَبَنِي الْكُوشِيِّينَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟”، وقال سفر ناحوم 3:9 “كُوشٌ قُوَّتُهَا مَعَ مِصْرَ”، وجاء في سفر إشعياء 18 :1 “فأبحر الملك طهارقة خلفاً لوالده بعنخي إلى منطقة الهلال الخصيب لحماية أورشليم من الآشوريين” (بعنخي وطهارقة فرعونان كوشيان حكما وادي النيل حتى فلسطين).

ويحظى السودان كذلك باهتمام خاص من بعض الجماعات الدينية التي ترى أن أجزاء واسعة من السودان هي جزء من جغرافيا حياة نبي الله موسى، وبشكل خاص مولده وإلقاؤه في اليم والتقاطه جنوب مصر ولقاؤه الرجل الصالح في مقرن النيلين الأزرق والأبيض والصخرة العظيمة التي تدل على موقع هذا اللقاء، والتي يزورها اليهود كل عام، فضلاً عن اهتمام هذه الجماعات في منطقة شرق السودان، والتي تعتقد أن نبي الله موسى كلم الله في بعض جبالها (علماً بأن الجماعات اليهودية لا تجتمع على هذا الرأي، كما أن غالبية المسلمين لا يوافقونه).

وقد شاعـت أنباء عن عمليات قطع طالت جبلاً في هذه الولاية منذ حقبة حكم الرئيس جعفر نميري، واستمرت حتى بداية الألفية الجديدة، وتم تصدير حجارته إلى دولة أوروبية. ومن تلك الحجارة، تم قطع وتجهيز مكونات هيكل سليمان البديل، وتم ترحيل هذه القطع إلى داخل فلسطين، لأن الأحكام التي استنبطها الحاخامات تقتضي بناء الهيكل من حجارة مباركة وفق الأحكام التوراتية.
السودان في المنظور الاستراتيجي الصهيوني

لقد جعلت “دولة” الكيان الصهيوني حدودها من النيل إلى الفرات، ونهر النيل الذي يتكون في الخرطوم من النيلين الأزرق والأبيض ويتدفق نحو الشمال باتجاه مصر له مكانة خاصة في المنظور الاستراتيجي الصهيوني شأنه شأن الفرات. وقد صممت علمها ليعكس أهمية النهرين من منظورها الاستراتيجي، ورمزت لهما بخطين أزرقين في أعلى وأسفل العلم، بينهما نجمة داوود، في تكامل بين الديني والاستراتيجي.

في آب/أغسطس 2008، قدم وزير الأمن الصهيوني آنذاك آفي ديختر محاضرة في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، تناول خلالها الرؤية الاستراتيجية للكيان الصهيوني تجاه 7 دول، هي فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران ومصر والسودان.

لخص ديختر الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تجاه هذه الدول بمقولته: “إن إضعاف تلك الدول واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة إسرائيل وإعلاء منعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى”.

وقال إن السودان، بموارده ومساحته الشاسعة، من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية، وإنه يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، وهو ما تجسّد بعد حرب 1967، عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر في حرب الاستنزاف عام 1968. وبناء عليه، بحسب ديختر:

– لا يجب أن يسمح لهذا البلد بأن يُصبح قوةً مضافةً إلى قوة العرب.

– لا بدَّ من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.

– سودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل.

– ما سبق يمثّل من المنظور الاستراتيجي ضرورة من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.

مصالح “دولة” الكيان الصهيوني في السودان

يمثل موقع السودان الجيواستراتيجي والجيوحضاري مركز اهتمام كبيراً لـ”دولة” الكيان الصهيوني يمكن أن يكون لمصلحة مشروع التحرر والاستقلال الوطني والقومي في الوطن العربي وفي قارتي آسيا وأفريقيا، فإذا تمكّنت من بسط نفوذها في السودان، حدّت من مخاطره عليها، لكونها مشروعاً كولونيالياً متعدد الأوجه والأهداف. وإن أفلت السودان منها وتحرر من نفوذها، وقف في الضفة الأخرى المقابلة لها، كما كان منذ قيام “دولة” الكيان.

لـ”دولة” الكيان الصهيوني مصالح اقتصادية في السودان الذي يتمتع بموارد اقتصادية هائلة ظلت هدفاً لـ”دولة” الكيان الوظيفية التي أقامها الغرب لتكون قاعدة اقتصادية متقدمة له، حيث الموارد الاقتصادية، وحيث مدخلات الإنتاج المتنوعة التي عُرفت بها قارتا آسيا وأفريقيا، وحيث الأسواق التي تعتبر الأكبر في العالم، لأنها سوق لستة مليار نسمة يشكلون مجموع سكان القارتين.

ولهذا الكيان كذلك مصالح سياسية في السودان، يحققها أو يخسرها وفقاً لموقعه في المسرح السوداني. ومن هذه المصالح موقف السودان من القضية الفلسطينية، وتأثيرات هذا الموقف في الفضاء الأفريقي، وخصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء.

ولدى الكيان مخاوف أمنية في السودان الذي ظل داعماً للقضية الفلسطينية في كل الحروب التي بدأت منذ حرب 1948 وحتى عملية سيف القدس، إذ كان له مساهمة فيها كلها مشاركاً وداعماً لفلسطين، ويمكن لهذه المخاوف أن تتحول إلى مصالح في حال تمكّن مع الغرب من تنصيب نظام حكم موالٍ لهما فيه.
أوجه الشبه بين ما يجري في السودان وما جرى في فلسطين قبل عام 1948

ثمة تشابه كبير بين ما جرى في السودان منذ عام 2019 وما جرى في فلسطين قبل إعلان قيام “دولة” الكيان الصهيوني في 15 أيار/مايو 1948. ومن تلك الأوجه ما يلي:

– هجّرت قوات الدعم السريع التي تنتمي غالبية أفرادها إلى دول الساحل والصحراء الأفريقية الملايين من عربان الشتات الذين تحدروا منهم إلى السودان بعدما تعذر عليهم العيش في تلك الدول، وتعذر عليهم الانسجام مع مجتمعاتها أو الاندماج فيها برغم إقامتهم الطويلة فيها، الأمر الذي صنع لهم حالة ووضعاً أشبه ما يكون بحالة اليهود الذين ضاقت بهم المجتمعات الغربية. وقد صنع ذلك ما عرف بالمسألة اليهودية.

رأت نخب عربان الشتات أن حل أزمة وجودها في دول الساحل والصحراء الأفريقية يكمن في إقامة وطن بديل أطلقت علية اسم دول قريش، ورأت في السودان وطناً بديلاً وأرضاً لميعادهم الجديد. وقد وجدت تشجيعاً من الغرب في ذلك وتأييداً ودعماً.

– قامت قوات الدعم السريع، وبدعم غربي عربي صهيوني، بعمليات تهجير منظمة لعربان الشتات إلى السودان منذ 2019، كما قامت بعمليات تصفية وتطهير عرقي في قرى ومدن في ولايات دارفور، استهدفت سكانها الأصليين، وجعلت منها مستوطنات لعربان الشتات الذين أقاموا في بيوت وقرى ومدن سكان دارفور الأصليين الذين طالتهم يد التطهير العرقي. وهنا يتبدى وجه شبه بين ما قامت به قوات الدعم السريع وما قامت به منظمات أرغون والهاغانا في فلسطين قبل عام 1948.

– وسّعت قوات الدعم السريع من جغرافيا الاستيطان، فقامت بشراء البيوت والأراضي الزراعية في مناطق ذات أبعاد تاريخية وحضارية، وبشكل خاص على امتداد نهر النيل وبين النيلين وعلى امتدادهما، وجعلتها مسرحاً للتوطين والاستيطان، وهو ما قامت به المنظمة الصهيونية في فلسطين عامة وفي المدن الفلسطينية، وبخاصة جماعة “شوفوبانيم” ومنظمة “لاهافا”.

– محو الذاكرة الوطنية ومحاولة صناعة سردية تاريخية جديدة يدعي فيها المستوطنون الجدد امتلاكهم أرض السودان وعدم أحقية السكان الأصليين بحقوقهم التاريخية وكل حقوق المواطنة، وفي ذلك صدى للسردية الصهيونية التي ادعت وتدعي أحقيتها التاريخية بفلسطين، والتي ترجمتها عبر تهجير الفلسطينيين واقتلاع بيوتهم ومحاولات السطو على تراثهم وإرثهم الحضاري، وترجم كذلك في منعهم من حقوقهم كافة، بما في ذلك حقوقهم المدنية، وهو يشبه ما قامت به جمعية “عطيرا اليوشنا” في فلسطين.

– سعى الدعم السريع إلى السيطرة على موارد السودان الاقتصادية، فوضع يده على المعادن والمصارف، وعلى التجارة، وخصوصاً تجارة السلع الرئيسة، مثل البترول وغيره، وسعى للتحكم في الموانئ والزراعة، وقام خلال أشهر الحرب بتدمير القدرات الاقتصادية لسكان السودان الأصليين، فنهب ثم أحرق ودمر المصارف والأسواق والمناطق الصناعية والمتاحف ومراكز الدراسات والبحث العلمي، فغير بذلك المراكز المالية لمصلحة أعراب الشتات “المستوطنين”، وهو الأمر الذي قامت به المنظمات الإرهابية الصهيونية في فلسطين.

وقد سبق أن جرى الأمر نفسه في فلسطين على أيدي الصندوق القومي اليهودي “كرين كايمت”، وكرين هايسود، وصندوق الائتمان اليهودي للاستعمار 1899. واستفادت شركة الجنيد التابعة للدعم السريع وبقية شركاته من تجارب الصناديق والشركات الصهيونية في تمويل عمليات الاستيطان وتعزيزه، وكان لمفوضية الأراضي التي أنشأها قائد الدعم السريع في 5/1/2022 دور رئيس في عمليات الاستيطان.

إن أبرز أوجه الشبه بين تجربة استيطان عربان الشتات ويهود الشتات يتمثل في التشابه، إن لم يكن التطابق، في خطط الاستيطان. ويتشابه واقع المهجرين من عربان الشتات ويهود الشتات في عدم انسجامهم في المجتمعات التي عاشوا فيها قبل تهجيرهم إلى السودان وفلسطين، كما أن التشابه يشمل أهداف الاستيطان وآلياته التي حولته من خطة إلى ملموس معيش.

ثمة أسئلة ملحة تفرض نفسها في هذا الأمر، منها: هل كان التشابه في تجربتي الاستيطان محض مصادفة؟ وكيف لقائد الدعم السريع ونائبه وأسرته، وهم من غير المتعلمين، ولم تتوافر لديهم القدرة على التعرف إلى طرق التخطيط وأنماطه، أن يضعوا خطة لتأسيس دولة يجتمع فيها ذووهم من دول غرب أفريقيا على هذا النحو الدقيق من التخطيط والتنفيذ؟ هل لمشروع الاستيطان في السودان صلة بالمشروع الذي تم تنفيذه في فلسطين؟

محمد حسب الرسول – الميادين