رأي ومقالات

د. فضل الله أحمد عبد الله: إبراهيم بركات : على جسر الجراح مشيت مقتفيا أثر الشهيد الجيلاني بركات !!

إبراهيم بركات : على جسر الجراح مشيت مقتفيا أثر الشهيد الجيلاني بركات !!
” قل من أين تنبع عظمة الإسلاميين ”
” تذكَّر قبل أن تغفو على أى وسادة، أينام الليل من ذبحوا بلاده؟
أنا إن مِتُّ عزيزاً إنما موتي ولادة ”
تلك الكلمات من رائعة شاعر العراق الكبير الراحل ” كريم عراقي ” ويعلم الله ، أن مدلولات تلك الكلمات نفسها ، كأني بها تنبعث من حواف كل كلمة يقولها ” إبراهيم بركات ” صبي مدينة الخرطوم، اليافع الذي كان كل شيء في إهابه دال إلى أنه خارج للتو من خواتيم سنوات طور الطفولة الغضة. غير أنه وبشبه طفولته تلك، كان إبراهيم بركات يفوق عمره ذكاء.
تعرفت عليه لأول مرة ونحن وقتذاك في ظل مناخ روحاني شديد الأثر على مجمل حيواتنا. وفي ضوء ذلك الشعور الصوفي، تتوهج وتشرق أرواحنا، في منابع فكرية ترنو دائماً إلى الأمام، نحو التماسك، والمصالحة، والاستقامة على المنطق والمعنى.
وكانت الليالي عندنا قصائد خضراء مفعمة بالأمل وسلام الأنفس، سلام على الأفئدة والقلوب، سلام على البلاد، وشوق لدولة نتقرب بها إلي الله.
في ذلك الوقت تعرفنا على إبراهيم ونحن نتردد زائرين عائلتهم الكريمة في منزلهم العامر في الخرطوم – السكة حديد – أو تعرف هو بنا، عقب إستشاهد شقيقه الأكبر ” الجيلاني بركات ” أحد أبرز قيادات طلاب الإتجاه الإسلامي في جامعة أم درمان الأهلية ، والذي إستشهد ضمن شهداء مجموعة السائحون في متحرك ” الوعد الحق ” المتجه إلى شرق الإستوائية بجنوب السودان عام 1994م.
الوقت يومها ليس هو اليوم، ولا نحن نحن، زمن لا يدور بخلدنا أي إهتمام غير الجهاد والإستشهاد، وليس لنا مسار نمشيه إلا مسار واحد من الخرطوم إلى جوبا والعكس كذلك، وحكايانا كأنها أساطير من التواريخ القديمة، ولكل واحد منا في السائحون أسم وراية وحكاية:
حمدي مصطفى ” البسر البال ” وحسين سر الختم ” دبشك ” وغيرهم من خاصة الشهيد الجيلاني بركات رفقة دروب القتال والمناضلة، في سفح ” جبل الجاف ” وهناك في ” جبل لادو ” ، والطرق إلى ” تركاكا ” و ” جبل سندرو ” في إتجاهات ” نمولي ” و ” ليريا ” بوابة الدخول إلى توريت، معشوقة المجاهدين، برغم قساوة الجرح وسقوط الشهداء إليها في ذات عهدنا، متسلسلا من ذات العهد القديم، التي قال عنها شاعرنا مصطفى سند في ” أحزان قديمة ” :
” توريت ” تفتح في مطار الليل صندوقا من اللحم الجريح
” توريت ” ترفع شارة البابا ولافتة المسيح
وتدق بالكفين شرفة غيمها الصيفي تنبح والأسى يلج الكهوف السود.
يرسم كل واجهة ضريح، مليون قلب في بحار الدمع طافية تصيح.
و” إبراهيم بركات ” يسمع من ” السائحون ” كل تلك الحكايات، بأشجانها حينا، وأفراحها حينا، وهو في بداية سنوات التلمذة، في المرحلة الثانوية بمدارس الخرطوم.
غير أنه كان صاحب ملكة إدراك مدهشة، ذكاء متقد، وبراعة في الكلام، أضف إليه، نفسه الأبية الشجاعة، التي تميزه على أقرانه، كان شديد الإلتصاق بالمجاهدين وأحوالهم، ممنيا نفسه بالجاهد والمجاهدة، وأن يكون يوما من أيام عمره خطا من خطوط مروية من حكايا النضال والمجاهدة أو حدثا من أحداث بنيتها.
واجتمعت في نفس ” إبراهيم بركات ” صفتان، الجد، وجميل المرح وجلاله، ولا فرق بينه وبين إبتسامته التي هي تغطية دافئة لمحاولته إختراق أفكار من يناقشونه في مجالس المؤنسات المعروفة وقتها بجلسات ” السائحون “. كان يتحين الأوقات لينتزع منا دعوة مخصصة له للحضور مستمعا، بأدبه الجم واحترامه الهياب ومرحه المؤنس الجميل.
هكذا عرف ” إبراهيم بركات ” باكرا موقع وجوده في الحركة الإسلامية فلزم المشي في صراط الجمال بنداءات الوجد حبا للفضيلة، ولأهله الذين مشوا ويمشون إليه، أتقياء، أنقياء. حتى أصبح رمزا من رموز شبابها العاميلن بإخلاص وإنكار ذات.
تعلقت روحه بقيمة الجهاد والإستشهاد في سبيل الله، ولازمته القول الجهير ” فلست مبد للعدو تخشعا ولا جزعا إني إلى الله مرجعي “.
وحسن الخطاب عنده إستلهامه مناجاة ” قطري بن الفجاءة ” لنفسه:
” أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً
مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي
فَإِنَّكِ لَو سَأَلتِ بَقاءَ يَومٍ
عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي
فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً
فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ
وَلا ثَوبُ البَقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ
فَيُطوى عَن أَخي الخَنعِ اليُراعُ
سَبيلُ المَوتِ غايَةُ كُلِّ حَيٍّ
فَداعِيَهُ لِأَهلِ الأَرضِ داعي
وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم
وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ
وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ
إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ ”
لا يغيب عن زيارتنا كل ما سنح له الوقت، يطرق مكاتبنا في مقر برنامج ” في ساحات الفداء ” متحريا ومتتبعا أخبار وسير الجيش والمجاهدين في معاركهم الحربية بجنوب السودان.
وأشهد أن الأخ سيف الدين حسن، صديقه الحميم، وقف في طريقه أكثر من مرة، وهو يجهز نفسه عازما للإلتحاق بواحدة من المتحركات القتالية. ذلك لصغر سنه أولا، ثم أن أسرته لم تجف دموع حزنهم بعد لفقدان أبنهم الكريم ” الجيلاني بركات ” ثانيا.
تمضي السنوات، ويكبر إبراهيم بركات، يلتحق بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا دارسا للهندسة، ولم ينسى المعنى :
” أينام الليل من ذبحوا بلاده ؟ ” ..
وكان له ما أراد من طريق، في رفقة الجاهدين من طلاب الجامعات والمعاهد العليا مجاهدا صلد المراس.
ثم تمضى الأيام، أنهى إبراهيم بركات سنوات الجامعة الخمسة المقررة للدراسة، ويكون أسرته الخاصة وعائلا للأبناء، ثم يغترب مهاجرا إلى ” جدة ” بالمملكة العربية السعودية، وهو في ذات أشواق العزة للسودان وأهله.
بعد كل تلك الأعوام من العمر، يفاجئني إبراهيم بركات ذلك الرجل الوقور اللطيف الروح، العاشق لشذى الجنة، بنبأ إستشهاده اول أمس بموقع سلاح المدراعات، في معركة الكرامة السودانية، دون أن يدير ظهرا للجنجويد وعربان الشتات.
على جسر الجراح مشى ” إبراهيم بركات ” ومضى على أثر شقيقه الأكبر الشهيد ” الجيلاني بركات “. أحد أزهى نجوم طلاب الحركة الإسلامية وأصلب عناصرها الذين عرفتهم جامعة أم درمان الأهلية في تاريخها.
حقا، على الأثر مضى ” إبراهيم بركات ” الفتى الذي عرفناه مثال للنبوغ ومثال للزهد والورع ولطافة الروح، ممتلأ بمحبة سيد الأولين والأخرين سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين..
تركنا ومضى إبراهيم بركات، وماذا يقول المرء غير أن يستلهم قول سيد العاشقين ” يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ.
صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا ”
والسؤال باق في حيرته :
من أين تنبع عظمة الإسلاميين في السودان؟

د. فضل الله أحمد عبد الله