الجيش ، حميدتي ، الحرية والتغيير ، حركات دارفور ، وأشياء أخرى ..
ماحدث في ١١ أبريل 2019 كان باباً مفتوحاً على كلّ الإحتمالات ، فدكتاتورية البشير وجماعته التي أستمرت ٣٠ عاماً سيطروا فيها على كلّ مفاصل الدولة كان من الصعب أن تسقط بتغير سلس ، لكن ما حدث كان غير متوقعاً ، تغيير للنظام من الداخل بقيادة بن عوف رجل البشير الموثوق ، بن عوف رجل كبير في السن عايش نظام نميري كضابط في الإستخبارات وكان العقل المدبر لصناعة مليشيا الجنجويد وهو بمقايس العمل العسكري ضابط ذو قدرات هائلة ، تمرد حميدتي حدث منذ اليوم الأول لتولي بن عوف السلطة فنشر إرتكازات في كلّ العاصمة وحاصر القيادة ووادي سيدنا ونشر إرتكازات في كل الكباري ، وحاول حصار المدرعات لكنه فشل حيث طرده اللواء نصر الدين من محيطها ، إضطرّ بن عوف للإستقالة في أول يوم تحت ضغط الجماهير وتحت ضغط التمرد الصامت وأستقال معه عبدالمعروف الذي أيضاً لم يكن حميدتي راضياً به نائباً للمجلس العسكري ، وتولّى البرهان الحكم بعد بن عوف مستقلاً صداقته الشخصية مع حميدتي بعد أن ذهب له في مكتبه وأتفق معه على أن يدخل المجلس العسكري نائباً ، ومن هنالك بدأت رحلة صعود حميدتي فبدأ بحشد قواته في الخرطوم ، وأستمرت إرتكازات قواته لعام كامل داخل الخرطوم فيما بقي الجيش داخل مقراته ، علماً بأن الجيش منذ سقوط البشير إنتشر بشكل كثيف ليوم واحد فقط وهو يوم بيان بن عوف وأعتقد أنه عاد إلى الثكنات خوفاً من إلتفاف قوات الدعم السريع على معسكراته ، تولت قوات الدعم السريع كل عمليات التأمين في الخرطوم وشكلت درعاً واقياً للبرهان أمام أي إنقلاب محتمل للإسلامين داخل الجيش أو من مليشياتهم أو من هيئة العمليات القوية جداً في ذلك الوقت ، كان الجيش محاطاً بقوى عسكرية كثيرة ، جيوش الحركات المسلحة كانت أعقلها والدعم السريع أخطرها ، وكانت البلاد على كف عفريت فالقوى الدولية المتوثبة لاترحم أحداً إذا وجدت فرصة ، لم يرحم المؤتمر الوطني الذي عزل عن الحكم أحد فشرع في ترتيب صفوفه والعمل على التأثير على الفترة الإنتقالية فتحوّل أعضاؤه إلى طبالين للمجلس العسكري وخاصة حميدتي الذي كانوا يظنون أنّهم سيعودون بسطوته وأشواقه للسلطة إلى الحكم ثم يتخلصون منه كما فعلوا مع موسى هلال فكان التدبير لفض الإعتصام ومن ثمّ القضاء على الثورة ، في صباح تلك الليلة كتب الطيب مصطفى رسالته للقائد حميدتي كما خاطبه وقال له لقد أحسنت ونطمع في المزيد ، فض الإعتصام كان طُعماً إبتلعه حميدتي ، لكنه سرعان ما أكتشف ذلك وشرع بعده بعد عشرة أيام من التهديد والوعيد ، شرع في بناء دائرة علاقات عامة ومستشارين ، لتحسين صورته وحساب خطواته فقد أدرك أن الأفاعي ستبتلعه إن سار دون دليل ، إستقطب حميدتي كثيراً من الإسلامين وأشترى ولاءاتهم وتعلم خططهم ثم بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية أصبح يظهر بمظهر الطامح لبناء إمبراطوريته الخاصة ، يظهر بمظهر جميل ويزيح كل العوائق التي تعترض طريقة عن طريق الإغتيال أو الإختطاف أو المال ، وبدأ بإزاحة هيئة العمليات ثمّ أستمر في تنظيف الجيش من كل الضباط الذين يناصبونه العداء أو الذين يريدهم أن ينضموا إليه ، كان البرهان طوال فترة صعود غريمه متبلد الحس عاجز عن الفعل ، تسبب له ذلك الموقف في مزيد من التعقيد من الذين يطرحون له الحلول .
حركات دارفور :
حاول حميدتي إستقطاب حركات دارفور الى صفه بإتفاق السلام لكن تلك الحركات كانت حذرة حتى أنتبه الجيش لذلك وضمهم لصفه في إنقلاب 25 أكتوبر فأصبح حميدتي حانقاً عليهم لكنه أيضاً يتعامل معهم بحذر حتى الآن .
الحرية والتغير والمؤتمر الوطني :
تقرب المؤتمر الوطني من البرهان مرة ومن حميدتي أخرى حتى وصل للحظة إنقسمت فيها كثير من كوادره بينهما بعد أن وضح جليّاً أنهما ليسا على قلب رجل واحد وكان ذلك الإنقسام إثني ومناطقي أما الحرية والتغير فأصبحت تتقرب من حميدتي ويتقرب هو منها وبينما كان ذلك يحدث ، كانت الحرية والتغير تبتعد عن الشارع السوداني وحميدتي يشتري في الولاءات من شباب ورجال إدارات أهلية وصحفين وسياسين ويجهّز لخطوة قادمة بعيدة المدى سيستلم فيها السلطة كاملة حسب مخياله ، أما البرهان والدائرة التي حوله فقد كانوا غامضين وحائرين في نفس الوقت ، حتى لحظة إنقلاب 25 أكتوبر الذي كان إنقلاب الجيش ضد الدعم السريع وليس كما ظهر في العلن ، بهذا الإنقلاب كان الجيش يأمل في وضع حد لنفوذ حميدتي لكن ذلك لم يحدث ، لأن حميدتي تمدد أكثر وأصبح التباعد بينه وبين البرهان يتسع ويظهر للعلن والتقارب بينه وبين الحرية والتغير ، التي سلبت منها السلطة يزداد ، كانت الحرية والتغير تريد أن تصل إلى السلطة بحميدتي ثم تلتف عليه وكان هو أيضاً يريد نفس الشئ ، لم تكن علاقة جيّدة وإنما علاقة مصلحة هدفها وضع حد لمجموعة المجلس العسكري وربما تمتد للقضاء على المؤتمر الوطني نهائياً ، كانت الحرب تقترب شيئاً فشيئاً والحرية والتغير تسابق الزمن بتنفيذ خطتها المبنية على وجود فجوة بين البرهان وحميدتي وأستغلالها لصالحها ، فكان التركيز على الجيش الموحد لكن بطريقة ترضي حميدتي لأنه في رأيهم هو الذي سيفرض هذا الإتفاق فكانت كارثة ورشة الإصلاح الأمني والعسكري التي أغضبت الجيش لأنّ خلاصتها هو بقاء الدعم السريع بقيادة مستقلة حتى نهاية الفترة الإنتقالية وبقوات لمدة ١٠ سنين وكانت المساومة في هذه الورشة غير مبنية على أشياء فنية وإنما بطريقة القوال والإرضاء فطرحت الحرية والتغير خيار ٦ سنوات والقيادة المشتركة .
إنفراط العقد :
ظلّ الشارع السوداني منذ سقوط البشير رافضاً لحميدتي وقواته ، ربما ببصيرة الشعوب لكن أيادٍ خفية حاولت خلق فجوة بينه وبين الجيش وصراعاً ما بين الحرية والتغير والمؤتمر الوطني جعل حميدتي يصعد ، فهو قد إستقل كلّ خلافٍ وكلّ أزمة لصالحه ، وهدفه ظلّ واضحاً وهو السلطة كاملة ، سياسياً أو عسكرياً ، حذرت عقول سودانية كثيرة من حميدتي ومن نيته المبيته بتحليل سياسي دقيق ، وقبل وقت طويل ، ربما أراد الجيش التعامل معه بالقوة الناعمة ووضع حد له دون حرب وربما بالغ الجيش في حسن النية أنّ حميدتي لن يقدم على خطوة الإستيلاء على الحكم بالقوة لا تستطيع أن تعرف ، لكنّ ثمناً باهظاً دفعه السودانيون نتيجة للأخطاء الكارثية التي حدثت في الفترة الإنتقالية ونتيجة للغبائن المتبادلة بين المؤتمر الوطني والحرية والتغير ، دفع الشعب الثمن مرتين مرة حين ضحى لإسقاط نظام البشير ومرة حين ضحى للحفاظ على بقاء الدولة ويبقى أمام الجيش السوداني بعد أنجلاء هذه الحرب واقع معقّد وحركات مسلحة كثيرة تنتظر الترتيبات الأمنية يجب التعامل مع ملفاتها بالسرعة والحكمة اللازمة ويجب الشروع في أيقاف الحرب في السودان إلى الأبد بالمساعدة على توافق سياسي شامل حتى لا يدفع الشعب السوداني الثمن مرة ثالثة .
إنفرط العقد وقامت الحرب ، وعلى كلّ الحادبين على أمر هذا الوطن أن يتحدوا للبدء من جديد بنفوسٍ صافية والنهوض به حتّى لا ينفرط عقد البلاد وفي هذا على كلّ منا تحمّل مسؤليته .
جهاد سلامة