عبد الفتاح البرهان: راوي حكاية سودان ما بعد البشير – فريق أول بـ”نكهة الثورة”
منذ استقلال البلاد، لم يعلُ صوت في السودان على صوت السلاح، حيث عاشت البلاد على وقع فرض المؤسسة العسكرية لسلطتها في أكثر من محطة من تاريخها. فبعد عام واحد فقط من الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، أقدمت مجموعة من الضباط بقيادة “إسماعيل كبيدة” على محاولة انقلاب عسكري للإطاحة بأول حكومة كان من المفترض أن تسير بالبلاد إلى “رفاه الديمقراطية”. لم تمضِ سوى فترة قصيرة حتى اعتلى العسكريون عرش السودان عام 1958 بعد انقلاب ناجح للفريق “إبراهيم عبود” ورفاقه، ولكن في عام 1964، اشتعلت ثورة شعبية أسقطت نظام عبود، ثم دخلت الأطراف السياسية والمؤسسة العسكرية بعدها في مسلسل صراع على السلطة انتهى بانقلاب عسكري نفذه “الضباط الأحرار” بقيادة جعفر النميري.
ولما لم تكن كل تلك الدراما السياسية كافية، قرر الفاعلون السياسيون إعادة التجربة بحذافيرها، بداية بانقلاب عسكري وصل بـ”عمر البشير” إلى الحكم عام 1989، ثم حراك شعبي أطاح بالرجل الذي حكم السودان مدة 30 عاما، زامنه تحرك عسكري أتى برجل آخر إلى سدة الحكم ولو بشكل غير حاسم حتى الآن. إنه نميري اليوم: الفريق عبد الفتاح البرهان. هنا نحكي قصة من 4 فصول عن الرجل الذي يكتب رفقة زملائه من العسكريين مستقبلا يبدو ملبدا بالغيوم للسودان الذي عاد إلى أجواء الحرب والدموية وعدم الاستقرار بفعل الصراع الأخير الذي يخوضه الجيش مع قوات الدعم السريع بلغة القصف والسلاح.
فريق أول بـ”نكهة الثورة”
وُلِد(1) عبد الفتاح البرهان عام 1960 بقرية “قندتو” بولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم، لأسرة سودانية تُميِّزها مسحة من التدين الصوفي على الطريقة الخَتمية، وهي إحدى الطرق الصوفية المعروفة في السودان. وتمتد العلاقة بين عائلة البرهان والتصوف إلى أبعد من مجرد الممارسة الدينية، إذ يُعتبر قبر جده “عبد الرحمن البرهان” المدفون في مدينة “العيدج” (وسط السودان) أحد أبرز المزارات الصوفية في البلاد. لكن بعيدا عن الحضرات والتسبيح والذكر، اختار البرهان لنفسه مسارا أقل روحانية، وأكثر صرامة وعملية، وهو المسار العسكري.
بدأ البرهان مساره التعليمي في مسقط رأسه، وأنهاه بمدينة “شندي” في الولاية نفسها، ثم التحق(2) بعدها بالكلية الحربية السودانية في دفعتها رقم 31. ولم تكن الخدمة العسكرية سهلة وهادئة، ولا يمكن بحال أن تكون هادئة في بلد مثل السودان أنهكته حروب لم تنتهِ، فقد شارك البرهان بمجرد التحاقه بالجيش في المواجهات المسلحة التي خاضها الجيش السوداني في الجنوب، وهي أحد أطول صراعات القرن العشرين، حيث امتدت من يونيو/حزيران 1983 حتى يناير/كانون الثاني 2005.
لم يكتفِ البرهان بالدروس العملية التي تلقَّاها خلال مشاركته في العمليات العسكرية، بل عَكَف(3) على تطوير نفسه عبر الالتحاق بدورات تدريبية في مصر والأردن. وقد أسهمت هذه الدورات في تسلُّق الرجل سلم الترقيات العسكرية، إذ تقلَّد منصب الملحق العسكري السوداني في الصين، ثم عُيِّن بعد ذلك قائدا لقوات حرس الحدود، وواصل تسلُّق المراتب حتى وصل إلى منصب نائب رئيس أركان عمليات القوات البرية، ليصبح بعد ذلك رئيسا لهذه الفرقة العسكرية.
لم يقتصر البزوغ العسكري لعبد الفتاح البرهان على المستوى المحلي، فقد أشرف(4) مع شريك الأمس وعدو اليوم “محمد حمدان دقلو” (حميدتي) على القوات السودانية التي شاركت في عاصفة الحزم مع قوات التحالف العربي ضد الحوثيين باليمن. وكغيره من الكوادر العسكرية التي ترقَّت رتبة تلو الرتبة إبان الحراك الثوري في البلاد، قدَّمت ثورة السودان هدية قيِّمة للبرهان الذي رقَّاه(5) الرئيس السوداني السابق عمر البشير في 26 فبراير/شباط 2018 إلى رتبة فريق ركن، بجانب تعيينه مفتشا عامّا للجيش، كما عرض البشير على البرهان منصب “الوالي” في إحدى الولايات السودانية، لكنه رفض المنصب الأخير.
لم تستمر علاقة الدعم المتبادل بين المؤسسة العسكرية والرئيس السوداني طويلا، فقد دفع الضغط الكبير القادم من الشارع نحو تسريع الإطاحة بالبشير. وفي هذه المرحلة بدأ اسم البرهان يطفو على السطح أكثر فأكثر، وبمجرد سقوط البشير، وفي 12 من أبريل/نيسان، توجَّهت الأنظار إلى أحد أهم رجال السودان الجديد بعد أن ترأس المجلس العسكري الانتقالي إثر استقالة وزير الدفاع الفريق “عوض بن عوف” بسبب ضغط الشارع الذي لم يكن يرغب في وجود الأخير على رأس البلاد ولو مؤقتا.
استقبل(6) المحتجون استقالة بن عوف وتعيين البرهان على رأس المجلس العسكري الانتقالي بنوع من الإيجابية، إذ تمكَّن الشارع حينها من فرض طلباته على المؤسسة العسكرية القوية في غضون ساعات ليس إلا. يُضاف إلى ذلك أن البرهان تميَّز عن بقية رجال البشير بأنه غير مطلوب على ذمة أي قضية من القضايا المرفوعة إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث صدرت في حق الكثير من معاوني البشير مذكرات توقيف بسبب اتهامهم بارتكاب جرائم حرب.
قوة السلاح المغرية
تولَّى عبد الفتاح البرهان السلطة العسكرية وسط وعود ومطالبات وتطلعات بأن يفي الجيش بالعهد الذي قطعه على نفسه أمام المحتجين والشعب، وهو العمل على حماية السودان مع تسليم السلطة إلى المدنيين عقب انتخابات ديمقراطية وشفافة، ولكن بمرور الوقت زادت قوة المجلس العسكري وتطلعاته، وزادت معه قوة البرهان الذي أضحى الرقم الأصعب في المعادلة السودانية، خصوصا بعد التحالف آنذاك بين الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. في غضون ذلك، وقع الشرخ الأكبر بين البرهان والثوار إثر واقعة مهاجمة خِيَم اعتصام السودانيين يوم 3 يونيو/حزيران 2019، ما تسبب في مقتل العشرات من المدنيين (قيل إن العدد وصل إلى 128 قتيلا)، بجانب مئات الجرحى والمفقودين. وقد وجَّهت المعارضة المدنية اتهامات خطيرة للجيش وقوات الدعم السريع حينئذ بمحاولة إخفاء الجريمة عبر رمي الجثث في نهر النيل قبل أن يتم استخراجها في الأخير، ورغم التحقيق الذي فُتح في الواقعة، فإن النتائج لم تفضِ إلى شيء.
لم يقتصر الخوف من المكون العسكري في السودان على مسألة استعمال العنف في حق المدنيين، بل إن الخوف الأكبر، الذي لا يزال قائما حتى كتابة هذه السطور، متعلق أساسا بمدى جدية المؤسسة العسكرية في تسليم الحُكم للمدنيين. وتعود قصة الشد والجذب المدني-العسكري إلى أغسطس/آب 2019، حين وقّع المجلس العسكري بقيادة البرهان اتفاق ائتلاف سُمِّي “الوثيقة الدستورية” بعد ضغوط من الشارع ومفاوضات طويلة مع المكون المدني الذي يقوده “ائتلاف قوى الحرية والتغيير”. وعقب توقيع الوثيقة، تمَّ الاتفاق على وضع مرحلة انتقالية يجري خلالها تسيير البلاد بواسطة “مجلس السيادة السوداني” الذي يتكون من 11 عضوا، 5 أعضاء من المدنيين ومثلهم من العسكريين، بالإضافة إلى رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، الذي أدى اليمين أمام مجلس القضاء يوم 21 أغسطس/آب 2019، في الوقت الذي عُيِّن فيه “عبد الله حمدوك” المدني رئيسا للوزراء.
رغم التوازن الذي أُريدَ الوصول له عبر تشكيل المجلس، فإن المكون العسكري بقيادة البرهان أظهر نفوذا أكبر خلال هذه المرحلة، ووجودا أرسخ داخليا وخارجيا، فقد كان رئيس المجلس الانتقالي صاحب التأثير الأكبر في المشهد السياسي في البلاد، بالإضافة إلى أنه عُدَّ واجهة السودان الفعلية، إذ كان يستقبل(7) بنفسه الزعماء الأجانب الذين يزورون البلاد للاطلاع على الأحوال الداخلية في سودان ما بعد البشير. من جانبه، حاول التيار المدني مواجهة هذه القوة العسكرية بأقصى ما يمكن مستعينا بـ”إجماع” المجتمع الدولي على ضرورة تسليم السلطة للمدنيين والتعهدات التي قطعها على العسكريين للالتزام بدورهم في المرحلة الانتقالية، وهو ما أكده(8) مثلا “جِفري فِلتمان”، المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، الذي قال إنه بوصوله إلى السودان واجتماعه بالأطراف المختلفة لم يرَ أي دليل أو رغبة لدى رئيس المجلس الانتقالي في الانفراد بالحكم.
بيد أنه، وبعد ساعات قليلة من ركوب “فِلتمان” طائرته تاركا السودان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلن البرهان قلب الطاولة على حمدوك ملزما إياه بإقامة منزلية تبعده عن الساحة السياسية مع إعلان حالة الطوارئ وحل مجلس السيادة السوداني والحكومة الانتقالية واعتقال عدد من أعضاء الحكومة وبعض المسؤولين والعاملين في قطاع الإعلام. لم تصمد هذه الخطوات سريعا، فنتيجة الضغط الدولي وضغط الشارع السوداني، عاد حمدوك لتوقيع اتفاق جديد مع البرهان أصرّ فيه الأخير على أن تنتهي الفترة الانتقالية بتكوين حكومة وطنية من التكنوقراط.
وكما كان متوقعا، ألجمت القوة العسكرية رئيس الوزراء الانتقالي في مسعاه نحو الوصول إلى انتخابات ديمقراطية، فخرج هذه المرة “طوعا” من المشهد السياسي بتقديم(9) استقالته عبر خطاب ألقاه بمناسبة ذكرى استقلال السودان في 2 يناير/كانون الثاني 2022، معترفا بفشله في خلق إجماع سياسي وطني “يحقق الأمن والسلام ويحقن الدماء”، بحسب قوله.
مناورات البرهان الخارجية
بالتزامن مع ترسيخ سلطته داخليا، كثف البرهان مساعيه لنيل الدعم من القوى الإقليمية المؤثرة، وفي مقدمتها الجارة مصر. قبل وصول البرهان إلى سدة “السلطة الانتقالية”، لم تكن العلاقات المصرية-السودانية مثالية، وقد شهدت(10) تدهورا كبيرا في سنوات البشير الأخيرة على وجه الخصوص، حيث اتهمت الخرطوم جارتها المصرية عام 2017 بدعم متمردي دارفور بالسلاح عن طريق جنوب السودان وعبر القوات الليبية التابعة لخليفة حفتر. أضف لذلك أن الخارجية السودانية اتهمت القاهرة بدعم الإبقاء على العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم في الأمم المتحدة بسبب أزمة دارفور، وهو ما نفته القاهرة في وقت لاحق.
على الجهة المقابلة، رأت مصر أن كل تحركاتها ما هي إلا ردة فعل طبيعية على عدد من الخطوات السودانية غير الودية، أولها إعادة إحياء ملف مثلث حلايب وشلاتين في أبريل/نيسان 2016، حيث رفعت السودان مذكرة لمجلس الأمن بخصوص الموضوع، وثانيها فرض السودان تأشيرة دخول في أبريل/نيسان 2017 على المصريين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عاما. ثم أتى بعد ذلك الملف الأهم، وهو ملف سد النهضة الإثيوبي، الذي لم يكن البشير متحمسا فيه للدفاع عن المصالح المصرية، فقد زار الرئيس السوداني المخلوع أديس أبابا في أوائل أبريل/نيسان 2017، وأكد على متانة العلاقات مع إثيوبيا واحترام السودان للأمن القومي الإثيوبي.
بعد تنحي البشير وصعود نجم البرهان، بدا من الواضح أن الأوضاع ستتغير، حيث نظر رئيس المجلس الانتقالي السوداني بنوع من الاحترام والتقدير للرئيس “عبد الفتاح السيسي” حسب ما أسرّ(11) لمقربين منه، علاوة على بحثه عن نوع من الدعم لخطواته، وحبذا لو جاء هذا الدعم من الرئيس المصري. بيد أن البرهان لم يكتفِ بمحاولة فتح صفحة جديدة مع مصر، لكنه اتبع مسارا غير معتاد بمحاولة بناء علاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حطَّت(12) طائرة صغيرة في الخرطوم قادمة من مطار بن غوريون الإسرائيلي. صحيح أنه على الورق لا يزال السودان يرى في إسرائيل عدوا له، إلا أن الحدث كان مهمّا لدرجة نحَّت كل الخلافات. ومن على متن هذه الطائرة الصغيرة كان هناك فريق طبي إسرائيلي وصل لإسعاف الدبلوماسية “نجوى قدح الدم” جراء مضاعفات إصابتها بفيروس “كوفيد-19″، غير أن جهود إسعافها فشلت، لتلقى الدبلوماسية السودانية حتفها بعد 24 ساعة فقط من وصول الطاقم الإسرائيلي.
كان من المفترض أن تبقى تفاصيل هذه الرحلة طي الكتمان، لكن مسارها الغريب من تل أبيب إلى الخرطوم جعلها عُرضة للتتبُّع، فانكشفت الزيارة التي تطلَّع منها السودان إلى إنقاذ السيدة التي خطَّطت لإحداث تقارب غير تقليدي بين الخرطوم والاحتلال الإسرائيلي. جاء هذا الحادث بعد 8 أشهر من لقاء سري(14) جمع بين عبد الفتاح البرهان وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مدينة “عنتيبي” الأوغندية، وهو لقاء لم يسفر عن أي بيانات أو صور رسمية توثق ذلك التحول التاريخي.
بعد خروج أخبار هذا اللقاء السري إلى العَلن، مارست إسرائيل هوايتها في التعبير عن سعادتها بهذه العلاقة، فيما خلَّفت الأصداء ردود فعل متباينة في الداخل السوداني، حيث ارتفعت الأصوات التي ندَّدت بلقاء كهذا، لا سيما أن البرهان لم يستشر أحدا ولا حتى رئيس الحكومة الانتقالية حينها عبد الله حمدوك. وفي السياق نفسه ندَّد “فيصل محمد صالح”، وزير الإعلام حينها، باللقاء قائلا إنه يرفض التطبيع مع دولة الاحتلال “إن هي لم تعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”. أما شريك البرهان سابقا وخصمه الحالي في المعركة، “حميدتي”، فأكَّد(15) ألَّا عِلم له قطّ بهذا الأمر. ورغم كل هذه المعارضة، خرج البرهان(16) للتأكيد على أن موقف بلاده تجاه إسرائيل لم يتغير، سوى بعض العلاقات الضرورية من أجل “الأمن والمصالح الوطنية”.
مرَّت الشهور، وخرج نتنياهو قائلا إنه هاتف البرهان، وإنهما تحدثا في عدة أمور، ثم هنَّأه بمناسبة عيد الفطر، وعبَّر له عن رغبته في تعميق العلاقات السودانية-الإسرائيلية، وسرعان ما ازدادت وتيرة الرحلات بين الخرطوم وتل أبيب أكثر فأكثر. وقد خرج البرهان لتبريرها بالتأكيد على أن الزيارات أمنية وعسكرية فحسب، ولا شأن لها بكل ما هو سياسي، ضاربا المَثَل بإحدى ثمار التطبيع المزعومة وهي مساعدة إسرائيل في إلقاء السودان القبض(17) على جماعة إرهابية كانت تهدد أمن البلاد.
شروخ في بنيان احتكار السلاح
تمكّن عبد الفتاح البرهان خلال فترة ترؤسه للبلاد ولو بشكل “انتقالي” من تحقيق عدد من المكاسب، منها ما هو سياسي داخلي، ومنها ما هو خارجي. غير أن الساحة ليست خالية تماما، بل يشغلها خصم مهم يحمل السلاح أيضا، وهو حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، الذي لم يبدأ مسيرته عسكريا مثل غريمه، بل بدأ تاجرا للإبل والأغنام والأقمشة، حتى شكّل جماعة من الرجال عملوا على تأمين القوافل وردع قُطّاع الطرق واللصوص. وقد تمكن الرجل بفضل جماعته من تكوين ثروة مُعتبَرة وميليشيا قوية استرعت انتباه البشير، الذي استعان بهم في صراع دارفور عام 2003.
مع مرور الزمن، وسّع حميدتي من استقطابه للمقاتلين من القبائل حتى وصل الأمر إلى تشكيل “وحدات استخبارات الحدود” التي عُيِّن حميدتي على رأسها. وقد حرص البشير على ضم حميدتي وقواته للمخابرات السودانية، ثم أعاد هيكلة هذه القوات عام 2013 لتحمل اسم “قوة الدعم السريع”، ومُنِح رئيسها صلاحيات واسعة جعلت منه مسيطرا فعليا على الذهب بعد استيلائه على مواقع تعدين المعدن الأصفر الرئيسية في منطقة دارفور، بل وأخذ يوسّع نفوذه في الخارج، فشارك بقواته في التحالف الذي قادته السعودية ضد الحوثيين في اليمن.
سرعان ما تغيّر دور حميدتي وخطابه بعد اشتداد الاحتجاجات المطالبة بسقوط البشير. صحيح أن الرئيس السوداني المخلوع هو الذي فتح أبواب النفوذ والجاه للرجل، لكن “واجب الوقت” كان يملي عليه السير في طريق معاكس. ولذا، قرر حميدتي التخلي عن البشير بعد 15 سنة من تقديم الحماية له، ورفع صوته مُطالِبا بـ”الإنصات للشعب”. وقد شكلت قوات حميدتي منذئذ صداعا في رأس البرهان الذي لم يكن مرتاحا لبقائها خارج قبضة الجيش، ومن ثم بدأت المفاوضات السرية بين الطرفين من أجل ضم هذه القوات للجيش، أو على الأقل تقليص صلاحيتها. ورغم الخلاف بين الرجلين، فقد جمعتهما مصلحة مشتركة في إبعاد المدنيين عن المشهد السياسي، أو تقليص تأثيرهم في أدنى الأحوال.
مرّت أشهر الاتفاق بين الرجلين سريعا، وكان ضروريا أن تقع المواجهة الفاصلة لتحديد هوية الرجل الأقوى في السودان، ولذا أتت المعركة المرتقبة غير المُفاجِئة. ففي الوقت الذي كان مبعوثو الأمم المتحدة يتناولون(18) فيه عشاءهم مع “الجنرالَين” لحثهم على التعقّل وحلّ النزاع بينهما، كان الرجلان يُخططان لما هو قادم: دائرة المواجهة المسلحة التي اندلعت وسط تنديد دولي وخوف محلي، وحملت معها نُذُر اندلاع حرب أهلية وسط اتهامات متبادلة من الطرفين بإشعال الصراع أولا.
رغم الوساطات والمفاوضات والمطالبات بوقف إطلاق النار، فإن الحرب بدأت تنتشر في شتى ربوع السودان، الذي حلم بالحرية قبل حوالي 4 أعوام، فعاد الرصاص ودخان البارود يجثم على صدره مجددا، مُذكِّرا إياه بماضيه الأليم. يبدو إذن أن البلاد بمساحتها الشاسعة لم تعد تتسع للبرهان وحميدتي معا، ما يعني احتمالية الدخول في حرب طويلة قد تفضي في أحسن الأحوال إلى انسحاب أحد الطرفين من الساحة، وفي أسوئها إلى قتال يمتد لسنوات. ولكن مع افتراض السيناريو الأكثر تفاؤلا، يعود السؤال المؤرق طارحا نفسه مجددا: هل سيقوم المنتصر منهما في نهاية المطاف بتسليم الحكم للمدنيين، والتخلّي عن مكاسبه طوعا؟
“الجزيرة نت”