تحقيقات وتقاريرسياسية

السودان.. لوحةٌ وقصّة قصيرة ترويان حال البلاد

هل يُمكن قراءة حرب الجنرالات الأخيرة في السودان، والتي دخلت قبل أيامٍ شهرَها الرابع، انطلاقاً من قصّة قصيرة ذات طابعٍ ديستوبي؟ ربّما حدث هذا السيناريو في أكثر من بلدٍ عربي، بدءاً من عام 2011، وبقصص وروايات مختلفة الأنماط، إلّا أنّه عاد ليتأكّد مُؤخّراً وبمرارة، بعد أن تداولت مواقع إلكترونية سودانية عديدة، وناشطون على وسائل التواصُل الاجتماعي، قصّة الكاتب منصور الصويم (1970)، التي تحمل عنوان “دوسنطاريا”، وكان صاحبُها قد وقّعها عام 2010، قبل أن تصدر في مجموعته الموسومة بـ “كانت وكان وكانت الأُخرى” (2020).

تتحدّث القصّة عن انطفاءٍ في أطراف بلدٍ “ما”، وانتقال الحرب فيه من الهوامش البعيدة إلى المركز، “نبوءةٌ” (ليست بعيدةً عن تاريخ البلاد المشهود)، تتضمّن في تضاعيفها كلاماً عن سيطرة على إذاعة قومية هُنا، وقصر جمهوريٍّ مُحطَّم هُناك، وبزوغ زمن الميليشيات المُتقاتِلة، وجنديٍّ يُدعَى “ما” (اسمٌ مُوغِل في التنكير)، غارقٍ في ظلِّ هذه الفوضى، بتنفيذ الأوامر أولاً: “اقتلوا حتى الظلال”، وبِلملمَة محتويات أحشائِه المُتقطِّعة بفعلِ أعراض ذلك الدَّاء الطُّفيلي الذي استمدّت القصة عنوانَها منه.

ذكَّرتْ هذه الاستعادة، في المقام الأوّل، بِبَدائِهَ عمَّا للأدب، بشكلٍ عام، من قُدرة على الكَشْف والاستقراء المُستقبلي. وفي ذات هذا السياق، نستحضر عنواناً آخر، مأخوذاً من عوالم التشكيل، هذه المرّة؛ “اضطرابٌ في النيل”؛ وهو معرض جماعي مقامٌ هذه الأيام في فضاء “بروتيريا” بلشبونة، ويتواصل حتى نهاية تموز/ يوليو الجاري، ويُشارك فيه تسعةُ تشكيليّين سودانيّين، ويستقرؤون من خلاله، حال الفنون في بلاد النيل، وما طرأ عليها طِيلة ثلاثين عاماً، بدءاً من 1989 حتى 2019، وبعضاً من سنوات الثورة التالية على ذلك التاريخ. فأيُّ المَشاهد الثقافية يمكنُ لنا أن نُعاين، من سودان اليوم، بعد أن جعلتها الحرب الأخيرة تَمُور بين هذه العناوين الفاجعة، التي لا تُحيل إلى مستقبل، بقدر ما تتشكّل بالتفاعُل مع ماضي البلاد السياسي أيضاً.

بين ماضٍ يتملّاه التشكيل، ومستقبل يتحفّز إليه الأدب، جديرٌ أن ننظُر إلى الواقع الراهن وما فيه، حيث نشَر، قبل أيام، الناشط عمر عشّاري أحمد، عَبْر حسابِه على فيسبوك، مقطعاً يُظهر فيه الحريق الذي اندلع في مبنىً يضُمّ أحد أبرز فضاءات العاصمة الثقافية “مقهى رتينة”، والذي أسّسه أحمد عام 2018، وظلّ طيلة السنوات الأربع الماضية، وحتى أيام قليلة قبل صبيحة الرابع عشر من نيسان/ إبريل 2023 (تاريخ اندلاع الحرب بين “قوات الدعم السريع” والجيش النظامي)، مكاناً تُقام فيه الندوات واللقاءات، التي تُطرَح فيها العديد من المسائل المُتعلِّقة بشؤون البلاد، سياسياً واجتماعياً.

وعلى صفحته كتب أحمد: “هذا المحلّ يحتوي كتُباً قمتُ بتجميعها على مدى سنوات طويلة، أكثر من عشر سنوات… هذا المشروع كانت أهدافُه تتجاوز ما هو ربحيّ… ولئِن كانت الحرب هي المُسبِّب الأول في اشتعاله، فإنّه لا معلومة لديّ إنْ كان ذلك ضربة من قِبَل الطيران، أو قذيفة من قوّات الدعم السريع”. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه، في هذا الوقت نفسه من العام الماضي، كانت قوات جهاز الأمن المركزي قد ألغت إحدى الحفلات الموسيقية في المقهى المذكور، فقط لأنّ المُغنّي محمد عبد الجليل معروفٌ بمواقفه المؤيِّدة لاستكمال مطالب الثورة، وإبعاد العسكر عن مواقع القرار السياسي. وهذه حادثةٌ تُذكَر، من جُملة حوادث وإجراءات أَمنيّة لا تنتهي، ما انفكّ السودانيّون والسودانيات يتعرّضون لها، بل دفعوا ثمنها، مِراراً، بأموالهم وحَيواتهم.

من جهة أُخرى، بعيدة عن العاصمة، إنّما ليس بعيداً عمّا يُعانيه القطاع الثقافي والتعليمي في البلاد عموماً، لم يكن نصيب مكتبة “جامعة نيالا” (1228 كم غربيَّ الخرطوم) أوفر، حيثُ أظهرت صُورٌ مُتداولة تدميراً وإتلافاً مُتعمَّداً لمحتويات المكتبة العِلمية، والتي يرجعُ تأسيسُها إلى عام 2013، حيثُ استباحَتها مجموعة مُسلَّحة، مساء التاسع من تموز/ يوليو الجاري، وأعملت فيها تخريباً وحرقاً. هو السلوك الميليشياوي الدوسنطاري نفسه، بل طبعة أسوأ.

وبفعلِ اشتداد القتال في المركز، فإنّ النزوح، سواء إلى دول الجوار أو ما بات يُعرَف بـ”الولايات الآمنة”، قد فرض نفسَه على الكثيرين. مع ذلك فإنّ شحّ مُستلزماتِ الحياة اليومية، ومثلها العِلاجية والخَدَمية، يجعل تلك المَلاذات الداخلية في وَضْعٍ لا يقلّ اضطراباً عن المركز. ولهذا النزوح اسمٌ آخر، تُمكن استعارتُه من “موسم الهجرة المرّة”، كما عنوَن التشكيليّ راشد دياب معرضَه الأخير، الذي احتضنته بيروت الشهر الماضي، ليكون أول تمثيلٍ تشكيليٍّ للأحداث الراهنة.

وبالوصول إلى سِيَر النزوح المرير، نستذكر الناشطة والكاتبة النسوية رؤيا حسن، التي نزحت وعائلتها صوب مدينة الرُّهد (500 كم جنوبي الخرطوم)، بُعيد اندلاع الحرب، قبل أن ترحل عن عالمِنا مطلع حزيران/ يونيو الماضي، جرّاء مُضاعفات إصابتِها بمرض التصلُّب اللُّويحي، الأمر الذي فاقَم حالتها، في مدينة تفتقر لأبسط شروط الرعاية الصحّية، حتى أنّ خبر رحيلها تأخّر إعلانُه عدّة أيام نتيجة انقطاع شبكة الإنترنت. وتكريماً لذكرى صاحبة بودكاست “تاء مربوطة”، أطلقت مؤسّسة “جنوبية حُرّة”، ومقرّها في مدينة أسوان المصرية، مسابقة للأفلام القصيرة المُصوَّرة بالموبايل، حملت عنوان “رؤيا نسوية”، حيث تُضيء المُشارَكات فيها على قضية تزويج الطفلات القاصرات في المجتمعات المحلِّية، وغيرها من الأفكار والقِيَم التي كانت الراحلة تكتب وتسعى من أجل تحقيقها.
احتراقُ فضاء ثقافي كـ”رتينة”، أو تدمير مكتبة جامعية، أو رحيل ناشطة وكاتبة مثل رؤيا حسن، أو فنّانة كآسيا عبد الماجد التي قضَت عن ثمانين عاماً إثر اشتباكاتٍ مُسلَّحة شمالي الخرطوم، أو مُغنّية مثل شادن التي ذهبت ضحيّة لقذيفةٍ سقطت على منزلها في أم درمان، كلُّ ما سبق ليس مُلخّصاً عن ذاك الاضطراب الكبير في بلاد النيل، ولا يُمكن اختزالُ المشهد في هذه العُجالة، إنّما هو مُجرّد تمثيلات، استدعاها توصيف الحال، للتدليل على معاناة أشدّ وأكبر لم تستثنِ أحداً من السودانيّات والسودانيّين.

العربي الجديد