كيف قاد رياض سلامة لبنان إلى الإفلاس ومصادرة أموال المودعين؟ “بلومبيرغ” تكشف التفاصيل
كانت عائلة حافظ يائسة من استعادة أموالها من بنك بلوم اللبناني. كان لديها مبلغ 20 ألف دولار، وهو كاف لعلاج نانسي حافظ من سرطان الدماغ، لكن البنك لم يسمح للعائلة بسحبه من حسابها الشخصي، وهو أمر يحدث مع آلاف المودعين الذين تحتجز البنوك أموالهم منذ العام 2019. عندما مرضت نانسي لدرجة أنها لم تتمكن من الضغط على مدير الفرع لسحب أموالها، تولت أختها سالي المسؤولية.
“أرجوك”، توسلت سالي، أختي ينفد منها الوقت بسبب المرض. قال المدير إنه يمكن أن تسحب ما يعادل 200 دولار شهرياً بالليرة اللبنانية. لم يكن حظ بقية أفراد الأسرة أفضل. فكرت سالي في بيع كلية. وبدلاً من ذلك، قررت هي وشقيقتها الثالثة، إكرام، أن تقتحما البنك بمسدس مزيف وعلبة بنزين.
ويشرح تقرير “بلومبيرغ” أنه في صباح أحد الأيام في سبتمبر/ أيلول الماضي، اتجهت سالي نحو فرع بلوم في بيروت وهي تلوح بمسدس لعبة من البلاستيك لابن أخيها. صرخت وهي تقف على طاولة وتضع السلاح الوهمي في حزام الخصر من بنطالها الجينز الأسود كما لو كانت تفعل ذلك كل يوم: “جئت إلى هنا اليوم للحصول على نقود أختي”.
للإثبات أنهن جادات، سكبت إكرام البنزين على رأسها وهددت بإضرام النار في نفسها إذا لم يسلم الموظفون النقود. بعد فترة وجيزة، كان الموظف يعد حفنة من الدولارات الأميركية في آلة عد النقود. وضعت الأختان 13 ألف دولار في أكياس، وهو ما يكفي لبدء علاج نانسي، وهربتا من مكان الحادث، وتخلصتا من البندقية المزيفة في الخارج.
في وقت لاحق من ذلك الأسبوع، ظهرت والدتهن، هيام حافظ، في الأخبار المحلية، لكنها لم تطلب من فتياتها تسليم أنفسهن. قالت: “لم نأخذ نقوداً ليست لنا. كانت هذه أموالنا التي وضعناها في البنك”.
كان استراد الأخوات حافظ جزءا من أموالهم واحدة من ثماني حوادث من هذا القبيل في شهر واحد في لبنان، وفق تقرير موسع نشرته “بلومبيرغ” البريطانية اليوم، عن أزمة المصارف اللبنانية. فقد اتجه المودعون اليائسون إلى “السطو على البنوك لاستعادة مدخراتهم” بحسب وصف الوكالة الأميركية.
وعلى مدى شهور، شهدت العاصمة بيروت، تحركات غاضبة من قبل مودعين بوجه المصارف اللبنانية، للمطالبة باستعادة ودائعهم المحتجزة منذ أكثر من ثلاث سنوات في البنوك. ودعت جمعية “صرخة المودعين” اللبنانيين من مختلف الانتماءات والطوائف والمناطق أكثر من مرة، للنزول إلى الشارع والمطالبة بحقوقهم، مؤكدة أنّ التحركات غير العنفية لن تطول، والتصعيد سيكون سيد المشهد في حال عدم استعادة أموالهم.
أصل الحكاية
مركز الزلزال هو مصرف لبنان المركزي. رياض سلامة يدير البنك منذ 30 عاماً، ما يجعلها الفترة الأطول في خدمة محافظ بنك مركزي في العالم.
خلال معظم ذلك الوقت، ادعى سلامة أنه يناصر فلسفة مستقرة ومحافظة للسياسة النقدية. لكن كان وراء عصر المال السهل ما وصفه البنك الدولي والقادة بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه مخطط بونزي.
عندما أصبحت الأوقات أكثر صعوبة داخل الدولة اللبنانية، بدأ مصرف لبنان يكافح لسداد ديونه، وبدأت البنوك التجارية في البلاد تتأرجح أيضاً.
لكسب الوقت، شرع سلامة ببضع جولات من الائتمان الرخيص. لكنه توصل في النهاية إلى حل أكثر يأساً، بالاعتماد على البنوك التجارية نفسها لسد ثغرات في احتياطياته النقدية. عندما بدأ الناس يشعرون بالألم من ارتفاع تكاليف المعيشة، توقف هذا الإعداد أيضاً، وانهار النظام المالي في العام 2019، كما توقفت البلاد عن سداد أعباء الديون الخارجية.
ويعاني اللبنانيون منذ أواخر عام 2019 من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، أدت إلى تسجيل انهيار تاريخي في قيمة الليرة اللبنانية، وتدهور حاد في القدرة الشرائية عند المواطنين، بينما واصلت المصارف سياسة احتجاز الودائع، وتسليم أجزاء منها للمودعين وفق تعاميم تفقدها قيمتها الكبرى، في وقتٍ تخطى سعر صرف الدولار في السوق السوداء حواجز الـ100 ألف ليرة، قبل أن يتراجع لنحو 84 ألف ليرة.
اليوم، الاقتصاد اللبناني في حالة من الفوضى. تجاوز معدل التضخم 170% خلال العام الماضي، وتقول وكالات التصنيف الائتماني إن هذا العام قد يكون أسوأ.
قال سلامة إنه سيترك منصبه في يوليو/ تموز المقبل بدلاً من السعي لفترة ولاية أخرى مدتها ست سنوات. قبل تقاعده المزمع في فيلته المطلة على بيروت، قد يكون رفيقه الأكثر ولاءً له هو سيجاره الكوهيبا.
يقول أحد المحللين الماليين الذين يلتقون به بانتظام، ويتحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، لوكالة “بلومبيرغ”، إن حاكم مصرف لبنان لا يترك سيجاره حتى لمصافحته.
يتابع: “من وقت لآخر، عندما يتحدث بجمل طويلة، يخرج السيجار من فمه”.
في مايو/ أيار، أصدر ممثلو الادعاءين الفرنسي والألماني مذكرات توقيف بحق سلامة في ما يتعلق بتحقيق امتد عبر ست دول. وتشمل المزاعم شراء عقارات في تلك البلدان باستخدام ملايين الدولارات من الأموال العامة اللبنانية المسروقة. ومع ذلك، ظل سلامة في لبنان بمنأى عن المساس به بشكل ملحوظ. لقد كان حراً في تدخين السيجار في مكتبه بينما تُركت الطبقة الوسطى المتلاشية للنظر في خياراتها بيأس.
سلامة السمسار
أمضى سلامة العقدين الأولين من حياته المهنية في فرعي مؤسسة ميريل لينش المالية في بيروت وباريس، وأصبح في نهاية المطاف مدير محفظة للعملاء الأثرياء بما في ذلك الصناعي ورجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري.
عندما أصبح الحريري رئيس وزراء لبنان في السنوات الأولى بعد الحرب الأهلية المدمرة التي دامت 15 عاماً، أعاد معه سلامة، وجعله محافظاً للبنك المركزي في عام 1993.
يقول نائب المحافظ السابق ناصر السعيدي لـ”بلومبيرغ”: “رياض ليس خبيراً اقتصادياً. لقد كان سمساراً”. يعتبر سعيدي أن خطيئة سلامة الأصلية كانت قراره عام 1997 بربط الليرة اللبنانية بالدولار، ما سمح باستخدام كلتا العملتين بالتبادل. بالنسبة لعشرات البلدان حول العالم يجعل ربط العملة بالدولار إجراء المعاملات المالية والتجارة الدولية، التي تتم عادةً بالدولار، أرخص.
حتى في وقت مبكر من فترة ولايته، أظهر سلامة موهبة في السياسة. فقد أقام تحالفات وحافظ عليها مع كل من الفصائل العديدة في الوضع الهش في لبنان، بما في ذلك جماعة حزب الله المسلحة. أدى قربه من أمراء الحرب الذين تحولوا إلى سياسيين إلى أن يشار إليه على أنه “محاسب المافيا”.
ولكن مع بزوغ فجر الألفية الجديدة، بدا أن ربط العملة اللبنانية بالدولار يؤتي ثماره، وفق “بلومبيرغ”، وهو ما حفز الاستثمار من جميع أنحاء أوروبا وعبر الخليج. تدفقت الدولارات الأميركية على عدد كبير من اللبنانيين البالغ عددهم 4 ملايين في البلاد. ازدهر قطاع العقارات، وبدا أن لبنان “يتحدى الجاذبية المالية”، على حد تعبير سفير أميركي سابق.
كما أتاحت هذه الخطوة فرصة للوسطاء، بمن فيهم أفراد عائلة سلامة. في عام 2001، أسس رجا، شقيق رياض سلامة، شركة في جزر فيرجن البريطانية تسمى فوري. لأكثر من عقد، وفقاً لتحقيق أجرته رويترز عام 2022، فرض مصرف لبنان عمولات على مشتريات البنوك التجارية من الأوراق المالية الحكومية دون الإفصاح عن أن الجزء الأكبر من تلك العمولات ذهب إلى شركة فوري.
قالت السلطات الأوروبية إنها تشتبه في أن شركة رجا حولت أرباحاً تزيد عن 300 مليون دولار إلى حسابات بنكية سويسرية. ونفى سلامة ارتكاب أي مخالفات، لكن السلطات اللبنانية والأوروبية أمضت سنوات في التحقيق في كيفية شرائهما وشركائهما عقارات بقيمة عشرات الملايين من الدولارات في جميع أنحاء أوروبا.
في فرنسا، تواجه والدة أحد أبناء سلامة المعترف بها من علاقة خارج نطاق الزواج أسئلة حول كيفية امتلاكها عقاراً في شارع التسوق الأكثر شهرة في باريس، شارع الشانزليزيه، والذي يزعم المحققون في بيروت أنها استأجرته للبنك.
حلم الرئاسة
كتب جيفري فيلتمان، سفير الولايات المتحدة الأسبق في لبنان، في برقية دبلوماسية عام 2007 نشرها لاحقاً موقع ويكيليكس: “هناك شيء بعيد المنال وزلق بطبيعته بشأن سلامة”. بحلول ذلك الوقت، كان سلامة قد حظي بتأييد الولايات المتحدة وكان يزور واشنطن ودمشق لعقد اجتماعات استراتيجية حول الترشح المحتمل لرئاسة لبنان.
في برقية أخرى في وقت سابق من ذلك العام، روى فيلتمان أنه خلال مأدبة عشاء لنادي الروتاري قال إن سلامة رد على سؤال حول أولويات سياسته بقوله: “أعطني الرئاسة وسأخبرك”.
ويتابع تقرير “بلومبيرغ” أن القطاع المالي المزدهر أدى إلى ظهور طبقة متوسطة عليا مزدهرة مع اختيار بيوت العطلات في الخارج. حصل سلامة وسياساته على الفضل، ومكّنه تأثير الهالة من التخلص من ضغوط الوزراء لبيع بعض الأصول الباهظة للبنك المركزي، بما في ذلك طائرة خاصة وكازينو.
لكن بعد فترة وجيزة، بدأت السحب تتجمع. بعد عام 2011، عندما تحولت الانتفاضة الشعبية في سورية المجاورة إلى حرب أهلية، بدأ المستثمرون الأجانب في الابتعاد عن المنطقة، وانخفضت تدفقات الدولار التي دعمت الاقتصاد اللبناني بشكل حاد، ما أدى إلى إغراق البلاد في الديون.
كان الحل الذي قدمه سلامة هو تقديم إعانات مالية للبنوك المتعثرة، بدءاً من أواخر عام 2015. بحلول عام 2018، كان مصرف لبنان ينشئ أصولاً من فراغ. كشف تقرير تدقيق من ذلك العام، سُرّب لاحقاً على نطاق واسع، عن بعض محاسبة سلامة “الإبداعية”.
في عام 2019، عندما اقترحت الحكومة ضرائب جديدة باهظة، تدفق المتظاهرون إلى الشوارع، وتجمعوا وسط سحب من الغاز المسيل للدموع أمام مبنى البرلمان للمطالبة بتنحي قادة البلاد. رداً على ذلك، أغلق سلامة البنوك لمدة أسبوعين. عندما أعيد فتحها، كانت طوابير المودعين الطويلة لا تعرف مدى سوء الأمور.
وعمدت المصارف في لبنان خلال أكثر من مناسبة إلى إقفال أبوابها بوجه الناس، والدخول في إضرابات شاملة، رداً على التحركات الشعبية، وكذلك في محاولة للضغط باتجاه وقف الدعوات والقرارات القضائية الصادرة ضدّها، والتي تلزمها بردّ ودائع المودعين المدعين عليها.
في يونيو/ حزيران 2021، استقل سلامة طائرة خاصة إلى مطار صغير في شمال باريس. عندما وصل، أخبر مسؤولي الجمارك بأنه كان يحمل 15 ألف يورو (16100 دولار)، في رحلة للقاء مصرفيين لبنانيين يعملون في فرنسا. لكن أثناء تفتيش حقائبه، اكتشف المسؤولون أكواماً من الأوراق النقدية أثارت شكوكهم، وفقاً لتقرير الشرطة.
يشرح تقرير “بلومبيرغ” أنهم ارتدوا قفازات جراحية لعد الأموال، والتي كانت بالدولار واليورو، بما في ذلك 47 من فئة 500 يورو التي يطلق عليها اسم “بن لادن” لارتباطها بالنشاط غير المشروع. في المجموع، كان سلامة يحمل ما يقرب من 91 ألف يورو.
عندما سأله مسؤولو الجمارك عن سبب احتواء حقائبه على الكثير من الأموال غير المصرح بها، قال لهم: “لقد نسيت أنها كانت هناك”. بعد عدة ساعات من الاستجواب، دفع غرامة قدرها 2700 يورو.
بحلول ذلك الوقت، كان تقرير التدقيق لعام 2018 قد تسرب إلى الجمهور. بعد فترة وجيزة من رحلة سلامة إلى باريس، ملأ المتظاهرون الشارع خارج مكاتب البنك المركزي، وهم يصرخون أن الوقت قد حان لرحيله مع الآخرين. لم يتمكنوا من رؤية المحافظ. ظلت الستائر ذات اللون البيج الثقيل الممتدة على طول مجموعتي النوافذ في مكتبه ذي الزاوية الكهفية مغلقة بشكل دائم.
لكن في الداخل، وفقاً للمحلل المالي الذي يجتمع معه بانتظام، كان سلامة يسمع صرخاتهم بصوت خافت، إذ كانت الاحتجاجات تزعجه. يقول المحلل: “إنه يتمتع بهذا الإحساس المذهل بالإفلات من العقاب. يجب أن يكون لاعب بوكر من الجحيم. لا يمكنك قراءة أي شيء على وجهه”.
وينتهي تقرير “بلومبيرغ” بعبارة: “استخدمت نانسي حافظ مدخرات عائلتها التي جمعتها لبدء علاج سرطان الدماغ في تركيا، وعلى عكس سلامة، تبدو شقيقاتها غير خائفات من إظهار وجوههن في الأماكن العامة”.
سكاي نيوز
العربي الجديد