التعايش مع الحرب فى السودان: يمكن أن تتبدل الأوضاع وتشهد مساراً لحسمها بالقوة الباطشة
دخلت الحرب بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع شهرها الثالث ولم تتمكن الجهود التى بذلتها أطراف إقليمية ودولية من وضع حد لها، فى ظل التباعد الحاصل بين تقديرات كل فريق وعدم حرصهما على تقديم تنازلات تؤدى لتثبيت التهدئة والوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار.
يبدو أن هناك ميولا للتعايش معها فترة طويلة، فكل المبادرات والتحركات والوساطات لم تتمكن من إجبار الطرفين على التجاوب مع الحلول التوافقية، وأصبح التعامل مع الحرب كأنه جزء من السياق السياسى العام للقوى المعنية بالسودان الذى شهد حروبا كثيرة على مدار السنوات الماضية، استغرق كل منها سنوات لوقفها والتوصل إلى حلول سلمية، ولا يزال بعضها لم يتم تنفيذه، ناهيك عن النتائج الكارثية التى ترتبت عنها، وأبرزها فصل جنوب السودان عن شماله، واستمرار المناوشات من قبل بعض الحركات المسلحة فى جنوب كردفان.يقود التعايش مع الحرب بحجة عدم القدرة على التوصل لتفاهمات مشتركة وزيادة جرعة الانسداد العسكرى، إلى تكرار نماذج حدثت فى كل من سوريا واليمن وليبيا، حيث بدأت الحرب ضيقة ثم اتسع نطاقها بعد أن اشتبكت معها أطراف داخلية وخارجية ولم يتوقع أحد أن تستمر كل هذه السنوات التى غيرت جوانب كثيرة من معالم هذه الدول، وتحول استمرار الحرب لكابوس، والسلام إلى حلم بعيد.
يتكون السودان من موزاييك أو خليط عسكرى وسياسى واجتماعى أشد خطورة من الدول السابقة، بالتالى فنتائج الحرب شبه النظامية فيه سوف تكون أشد صعوبة ما لم تنجح إحدى المبادرات الداخلية أو الخارجية فى وضع نهاية لحرب وصفتها عناصر مشاركة فيها بالعبثية، لأن التأقلم معها والقبول بما سيترتب عليها من تداعيات تجعل العودة إلى النقطة السياسية السابقة عليها مستحيلا.تشير مواقف قوى عديدة إلى استعدادها لعدم الضجر من الحرب فى السودان طالما لم تستطع وقفها بالصورة التى تحقق التوازن فيها، والذى يعنى التمهيد لفصل جديد من التجاذبات حول تحديد الجهة المسئولة عنها والدوافع التى قادت إليها ومعالجة آثارها على الدولة والمجتمع، وكلها عوامل تحتاج لجهود مضاعفة من قبل الأطراف المعنية بها، والتى يميل بعضها لإمكانية التعايش معها.
سقطت قاعدة لا غالب ولا مغلوب مع بدء العد التصاعدى للحرب، ولم يجد انتصار أحد الطرفين قبولا من الآخر، ولا يعنى القضاء عليه، فما تبقى من قوات سوف يواصل المسيرة بأشكال متباينة، بعد أن بات القبول بالهزيمة مسألة يصعب التسليم بها، وكأن الشعب السودانى الذى تحدثت من قبل عن سماحته بدأ يفقدها مع هذه الحرب اللعينة بسبب كثافة الانتهاكات المرتبكة، وانتشار روايات بشعة حول تصرفات عناصر فى الفريقين المتصارعين.تروق فكرة التعايش مع الحرب من جانب بعض القوى إلى حين تتضح الصورة، لأن الحالة التى وصلت إليها لم تؤثر بعد على مصالح قوى إقليمة ودولية تراقب الموقف عن كثب، وتعتقد أن السودان يمثل ركيزة أساسية لأمنها فى المنطقة، وعندما تتيقن أن ما يجرى سوف يحدث تغييرا فى تقديراتها الإستراتيجية يمكن أن تتبدل الأوضاع وتشهد مسارا لحسمها بالقوة الباطشة أو عملية سياسية منتجة.
لم تصل تطورات الحرب إلى المرحلة التى تجبر قوى خارجية على التدخل مباشرة فيها، فهناك جهات متعددة تراقبها وتعلم أن دخول طرف يسمح بدخول آخرين على خطوطها، بما يزيدها اشتعالا وتصعيدا، وهى مرحلة قد يدخل فيها السودان إذا لم تتمكن التحركات الراهنة من وقفها، مستغلة الإنهاك العسكرى الذى حل بالقوتين المتصارعتين لتقديم مقاربة تمهد الطريق لتسوية حقيقية.تكاد بوادر الحل تصبح معدومة حتى الآن، فلا ضغوط قوية تمارس على الطرفين أو أحدهما، والعقوبات الاقتصادية التى فرضتها الإدارة الأمريكية غير مؤثرة، وتبنتها للإيحاء بأنها لن تتخلى عن اهتمامها بالسودان، وبعض الدوائر التى تبدى اهتماما بهذه الدولة أقصى ما يمكن أن تقوم به ينصب على البعد الإنسانى، ولا تريد أن تسبقها قوة منافسة فى وضع قدميها داخل السودان بالشكل الذى يمنحها مزايا نسبية فى المستقبل.
يساعد تنوع الوساطات وتباين الحسابات بين القوى المهتمة بالسودان وتباعد الولاءات بين الأطراف الداخلية على زيادة رسوخ فكرة التأقلم مع الحرب، كخيار يحول دون توسيع رقعة الصدام فى السودان، ووسيلة تمنع تحقيق أحد الطرفين انتصارا يمكن أن يضر بمصالح قوى خارجية قد تضطر لدخول المواجهة مباشرة.ينطوى التعايش على حل مؤقت لأزمة معقدة، ويتيح المجال لمن دفعوا إلى هذه الحرب أو فوجئوا بها لإعادة ترتيب أوراقهم، وتحديد الطرق التى يمكن ولوجها، وهى عملية تستغرق وقتا، ولا أحد يضمن نتيجتها، فعندما اندلعت الثورة فى سوريا توقع البعض أن تنتهى فى أيام أو أسابيع قليلة.
وبعد أن وقعت الحرب فى ليبيا لم تتخيل جهات كثيرة أن تصل إلى ما وصلت إليه من انفلات، فبعد تخطى عقدة وقف إطلاق النار منذ حوالى ثلاثة أعوام، ظهرت المعضلة فى التسوية وقواعدها والآليات اللازمة للوصول إليها، وتستمر هذه الحلقات صعودا أو هبوطا بلا حصيلة ملموسة عقب مرور أكثر من عشر سنوات لتعيد الدولة إلى سابق عهدها.أخشى على السودان أن يدخل هذه الدوامة ويدفع ضريبة التناقضات بين القوى المنخرطة فيه، ويصبح ضحية سوء تقدير قواه العسكرية وتقاعس قواه السياسية، ويفسح المجال للتعايش مع الحرب كأمر واقع فترة طويلة.
محمد أبوالفضل – بوابة الأهرام