رأي ومقالات

هشام الشواني: طريقة أركان النقاش والتضليل لا تخدم القضية

قرأت مكتوبا للسيد خالد سلك، يسرد فيه جزءً بسيطاً مجتزأً من تاريخ مهم لبلادنا، ويوظفه ليصل لنتيجة محددة يرغب فيها سلفا. هذا النوع من التفكير يشتهر به خالد سلك ويبيعه لبعض الناس، وهذا التفكير غايته تبرير النتيجة المعروفة سلفا والتي تنتج عن موقف سياسي تكتيكي في اليومي السياسي قريب المدى، هذا التفكير يتسم بضيق الأفق ويظهر ذلك مع الزمن، ولعدة سنوات من مسيرة هذا السياسي كان يتبع ذات الطريقة فقد وقف مبررا خيار نزول الانتخابات مشاركا المؤتمر الوطني ضد خيار الثورة الشعبية عليه وذلك قبل ال٢٠١٨، ثم جاءت الثورة وقفز لتبرير التفاوض ضد خيار عدم التفاوض وقتها، ثم جاء فض الاعتصام وبرر لطرح (البل بس) ضد أي خيار آخر، ثم مضت الأيام وروج للوثيقة الدستورية عبر التفاوض ومدح بعدها اتفاق جوبا، ثم جاءت ٢٥ أكتوبر فأنتقد اتفاق جوبا وقوى الاتفاق كلها، ثم رفض التفاوض مع العسكر باللاءات الثلاث، وأذكر جيدا أنه كتب يعترف بخطأ التفاوض منذ البداية مع العسكر، مرت الشهور وجاء الحوار مع القيادة العسكرية وأعترف بأن خيار اللاءات الثلاث هو طريق واحد فقط وأن هناك طرق أخرى من ضمنها طريق التفاوض بعد سقوط شهداء كثر بالطبع!! وحين وقع الاتفاق الإطاري وهو في غمرة اجتهاده ضيق الأفق لتنفيذ الاتفاق المليء بالعيوب والذي كان سببا رئيسيا في ما حدث دوت طبول الحرب يوم ١٥ إبريل.
يعود اليوم خالد سلك بعد كل ذلك لتبرير جديد لموقف وهمي مضلل، وبذات الطريقة ستمر الشهور ويأتي موقف أكثر جدة، ويعمل ذات الرجل على تبريره. بكل تواضع فإنني أقدم للسيد خالد سلك نصيحة واحدة عملية وهي:
أن يجد شخص آخر معه ومن داخل حزبه ليتقاسم معه التبرير، فلا يُمكن أن يبرر شخص واحد كل تلك المواقف بنظرة تكتيكية وبدون مرجعية فكرية تحليلية، ومن حُسن التدبير إظهار الأمر وكأنه صراع فكري داخل الحزب، فيتقدم شخص آخر مع كل مرحلة. كيف لشخص واحد أن يبرر كل تلك المواقف في بضع سنوات وبكل ثقة!!
عموما لقد كتب خالد سلك بعض النقاط التاريخية وتتسم كلها بالتضليل أو التجهيل المتعمد:
* أولا: لم تعترف النخبة في العام ١٩٥٥ بصلة الاستعمار بالحرب أصلا، والرأي الغالب وقتها لتلك النخبة هو في النظر للمشكلة من الباب السياسي حول مسألة قضية الحكم الذاتي والاستقلال عن مصر، وقضية الفدرالية بعد مؤتمر جوبا. لم ينظروا لأسباب الاستعمار الحقيقية منذ قانون المناطق المقفولة العام ١٩٢٢ وسياسات الاستعمار الثقافية والاقتصادية، بل كرر السياسيون وقتها وللأسف ذات سردية المستعمر عن الجنوب والجنوبيين. وأدانوا الدولة فقط وهذا ما فعله خالد سلك بالضبط، فتجده يكتب بنبرة الضحية وذكر سياسات عبود ولم يُحلل الصراع في بعده الأكبر بما يشمل حتى نخب الجنوب أنفسهم. ليس مهما للسيد خالد سلك أن يقدم تحليلا علميا وتاريخيا، لا وقت لذلك فالمهم هو التضليل الكلامي وخدمة النتيجة التي يرغب في الوصول لها.
ثانيا: في بقية التواريخ نجد خالد سلك يقفز مستعجلا مهرولا نحو نتيجته الجاهزة التي يُحب، فيذكر اتفاق أديس ١٩٧٢ ولا يذكر معه سياسات النميري الاقتصادية وتحالفه مع الغرب وعجزه عن استيفاء متطلبات الجنوب، لا يعرف خالد سلك هنا مقدار التدخل الخارجي الكبير في السبعينات مع ثورة النظام الرأسمالي نحو نظام الرأسمالية المالية وحصار الدول، ولا ينتبه لصراع النخب الجنوبية داخليا ومحاربة هيمنة الدينكا، ثم نشوء الحرب بأسباب كثيرة أهم بكثير من الأسباب التي ذكرها.
ثالثا: في الحقيقة كل التواريخ من ١٩٨٣ و ٢٠٠٣ و٢٠١١ يتحدث عنها خالد سلك بطريقة أركان النقاش، طريقة تضليل كلامي يقود المتابع قسرا للنتيجة بترديد هتافي عاطفي، هذه الطريقة فقيرة فكريا وتاريخا ومنهجيا، وتخيل عزيزي القارئ أن السيد خالد سلك لم يتحدث عن العامل الخارجي في تحليله أبدا. وهنا نسأل سؤال هل الحرب في السودان تاريخيا كانت جزء من التعامل العسكري أم هي في الأساس سبب لأخطاء المدنيين؟ الحرب تجد أسباب كثيرة في فترة ما عُرف بالديمقراطيات الثلاث بأكثر من بدايات الحكم العسكري، بل العكس هو الصحيح فكل اتفاقات السلام المهمة كانت في ظل حكم عسكري، وللتاريخ فإن وأهم مؤتمر حول الجنوب عُرف بمؤتمر (المائدة المستديرة) في العام ١٩٦٥ قام في ظل الديمقراطية الثانية، لم يكتمل وتم حل لجنته بعد أقل من ثلاث شهور، فذهب مع الريح كمؤتمرات باريس وبرلين وورش السلام والإصلاح العسكري التي فرح بها خالد سلك!!
بكل تواضع على خالد سلك أن يقرأ، قديما كان اسماعيل الأزهري يفتخر بأنه (لا يقرأ) على خالد سلك اليوم أن يعود للقراءة من جديد، عليه أن يترك طريقة أركان النقاش في جامعة الخرطوم شارع المين، وعليه أن يصمت وقتا كافيا من أجل قراءة كتب مهمة في تاريخ السودان، وأقترح عليه بعضها مثل: (السودان المأزق التاريخي) (الصراع السياسي على السودان) (صراع السلطة والثروة في السودان) (حروب الموارد والهوية) (زراعة الجوع في السودان).
الخلاصة:
التهافت والتضليل والتبرير لن يقنع الناس بأن هذه الحرب ليست حربا ضد التمرد، وأن الانحياز للقوات المسلحة الوطنية هو الموقف السليم، وأن الصمت الذي تٌُمارسه قوى الحرية والتغيير مقابل الانتهاكات ومساواتها بين كفة الجيش الوطني وكفة التمرد هو موقف يخون الوطن ومستقبل السودانيين. والأهم أن خالد سلك ينسى كيف أن الاتفاق الإطاري منح التمرد غطاء سياسي وحجة دستورية لحربه التي يقوم بها اليوم ضد الدولة، فليس من قبيل الصدفة أن تتطابق دعاية التمرد السياسية مع خطاب قوى الحرية والتغيير لهذا الحد.
عليه فإن المسألة الآن ليست بين دعاة للحرب مقابل حمائم السلام، هذا هو التضليل عينه الذي يجتهد له خالد سلك ليجعل من أنفسهم حمائم للسلام. المسألة اليوم هي الاعتراف بأن هذه الحرب هي حرب ضد التمرد، والاعتراف بضرورة إنهاء التمرد ووقف الحرب في عملية واحدة، وتوجيه صوت سياسي وطني يكشف الانتهاكات والجرائم ويُساهم مع الشعب في عزل التمرد عن كل تحالف سياسي ولو بذلت (قحت) مجهودا في هذا الاتجاه فذلك أفضل مما تقوم به الآن، فذلك سيدفع لتحقيق السلام وإنهاء التمرد ويعيد الأمور لنصابها الصحيح.

هشام الشواني